ثمة نقاش  مكتوم  في سورية: من تسبب بخسارة لبنان؟

 قدم عبد الحليم خدام جواباً باسم جناح من أجنحة السلطة هو الجناح «المهزوم» حالياً. الجواب تبسيطي ولا تغيّر من صفته بعض الأهازيج اللبنانية في استقباله. ما قاله خدام هو أنه كنا في الأبيض فأصبحنا في الأسود. كان الوضع رائعاً (في لبنان وفي سورية وفي ما يخص علاقاتهما) فأصبح الوضع كارثيا وانتهى الى ما انتهى إليه. أما لحظة القطع بين المرحلتين فتقع في منطقة ما بين 1998، تاريخ خروجه من «الملف اللبناني» وبين 2000 تاريخ استلام الرئيس بشار الأسد الحكم في دمشق.

الجناح الحاكم حالياً في سورية يملك جواباً آخر إلا أنه جواب يعجز عن التعبير عن نفسه تماماً لأن ذلك سيقوده الى جردة حساب للماضي الذي هو، حتى الآن، مصدر شرعية الوضع الراهن. وخلاصة الجواب أن الانهيار الحاصل الآن هو النتيجة الطبيعية للأساسات المغلوطة التي نهض البناء فوقها. إن الذين أداروا لبنان من دمشق استولدوا فيه نظاماً عصياً على أي اصلاح او تقدم او تغيير، لذا تقع المسؤولية عليهم لأن ما أوجدوه لم يصمد أمام تواتر الضغوط الخارجية واللبنانية.

خرج هذا النقاش المكتوم إلى العلن مع شهادة خدام. وكان أطل برأسه جزئيا في «الرسالة الوداعية» لغازي كنعان. نقول خرج إلى العلن لأنه كان محتدما في سورية ولو وراء الكواليس. فوق ذلك أنه كان، منذ منتصف التسعينيات، يعبر عن نزاع حقيقي ضمن السلطة، وهو نزاع كان الرئيس الراحل حافظ الأسد يضبطه، ويوازن بين قواه، ويغلّب تدريجياً وجهة على وجهة.

كان لبنان من 1995 إلى 2000 «الساحة» التي تدار فيها «صراعات» سورية سورية. كان يمكن قراءة التمايزات السورية انطلاقا من رؤية التضاريس اللبنانية التي لعبت دور المرآة المكبرة لما يجري في دمشق. ومن دون أي رغبة في اختزال الحياة السياسية اللبنانية فإنها كانت في وجه بارز من وجوهها انعكاسا لتباينات موجودة في سورية. ومن هنا، ربما، الطابع الهجين لـ «الديموقراطية» اللبنانية لأنها كانت «ديموقراطية سورية بالواسطة» و«اللعبة» التي تدار عبرها نزاعات ممنوع عليها الخروج إلى العلن. لم يكن ممكناً، والحالة هذه، أن يحتكم التنافس اللبناني الى تقاليد الحياة السياسية اللبنانية وحدها لأنه كان مطالبا بأن يستبطن ويعبر عن النزاع الممنوع في سورية وأن يتطعم ببعض أدوات خوض ذلك النزاع.

لا يمكن فهم محطات بارزة في لبنان من دون فهم هذا التداخل بينه وبين سورية. وسيكون لافتا اننا سنجد، في كل محطة من هذه المحطات، كيف أن الأواني المستطرقة فعلت فعلها وكيف أن محوراً سورياً لبنانياً كان، على الدوام، في مواجهة محور سوري لبناني، وكيف كانت الانتخابات تحصل بـ «الأصالة» عن لبنان وبـ «النيابة» عن سورية.

التمديد للرئيس الياس الهراوي محطة أولى. القوى السورية الداعمة للتمديد (مرموزا إليها بعبد الحليم خدام وحكمت الشهابي وغازي كنعان) تحالفت مع قوى لبنانية (مرموزا إليها بشكل خاص بالرئيس الشهيد رفيق الحريري ووليد جنبلاط).

القوى التي رفضت التمديد كان يرمز إليها، سورياً، بشار الأسد الحديث العهد في وراثة أخيه باسل والمتجه إلى وراثة والده، كما يرمز إليها لبنانيا بـ «أصدقاء باسل» (سليمان فرنجية، طلال أرسلان...) وبقيادة الجيش مع خصوصية لحركة «أمل» و«حزب الله». لا ضرورة للاشارة الى القوى السياسية «المسيحية» لأنها كانت خارج اللعبة تماماً ومعترضة عليها.

انتخاب العماد اميل لحود محطة ثانية. نشهد الاصطفاف نفسه مع بعض الفوارق (غازي كنعان يتخذ مسافة عن خدام والشهابي) الحريري يوافق من دون حماسة. يدل هذا الانتخاب على تعديل في موازين القوى (كان موقع بشار ضمن النظام السوري قد أصبح أقوى) ويؤدي الى مزيد من التعديل في الموازين نفسها في البلدين. فالجناح المعترض على إميل لحود يضعف ويحصل انتقال في إدارة «الملف اللبناني» في دمشق. الدرس من ذلك أنه يخطئ كل من لا يرى التأثير المتبادل بين البلدين ولو أنه متفاوت. بمعنى أن ما يجري في بيروت عنصر فاعل، نسبيا، في دمشق.

المحطة الثالثة بعد انتخاب لحود في 98 هي انتخابات 2000 النيابية في لبنان. لقد شهدت الموجة الارتدادية الأولى على الفوز الذي حققه جناح سوري لبناني على جناح سوري لبناني آخر. وليس صدفة والحالة هذه أن يكون دور غازي كنعان (وقانونه) في هذه الانتخابات محاطا بالغموض حتى الآن. إلا أن العام 2000 شديد المفصلية ويتجاوز مجرد الانتخابات.

إنه، لبنانيا وإقليميا ودوليا، عام التأسيس للأزمة الراهنة. فيه وصل بشار الأسد إلى رئاسة الجمهورية في سورية في حين كان حليفه اللبناني، إميل لحود، يتعثر. وفيه أنجزت المقاومة تحرير معظم الأرض اللبنانية ما فتح الباب أمام مطالبتها بنزع سلاحها وإقفال الجبهة. وفيها الملمح الأول لدبيب الحيوية في البيئة المسيحية. ولكن هناك، أيضا، اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية ووصول أرييل شارون إلى السلطة في إسرائيل، وفشل المحادثات السورية الإسرائيلية، ووصول جورج بوش إلى البيت الأبيض.. لقد كانت هذه العوامل، وغيرها، هي العوامل التي تفجرت لاحقا بعد تدافع الأحداث الذي يمكن التأريخ له بتفجيرات 11 أيلول.

المحطة الثالثة إذاً هي محطة فرض التعايش في لبنان وبدء اختبار الأسد الابن في سورية. الاصطفافات هنا وهناك على حالها.

يمكن المرور مروراً عابرا بإزاحة غازي كنعان وحلول رستم غزالة مكانه، كما يجدر التوقف بالمحاولة التي قام بها لحود لتعديل التوازن لصالحه حيال الحريري. إلا أن ذلك يقود إلى المحطة الرابعة.

التمديد للحود هو المحطة الرابعة. ونلاحظ، هنا، أن التحالفات في لبنان، والامتدادات في سورية بقيت على حالها. عارض الحريري التمديد ومعه جنبلاط وحصلا على دعم من الحيوية المسيحية المتجددة، وعارض خدام التمديد، كما قال في المقابلة مشيراً إلى أنه كان أصبح خارج دائرة القرار، وعارضه، أيضا، غازي كنعان.

إلا أن المهم، في تلك اللحظة، ليس التمديد حصرا بل التمديد الذي «يفرض» في أثناء هبوب العواصف. نحن أمام خطوة تتم في معاكسة المجرى العام للتطورات اللبنانية والإقليمية والدولية. لقد تم تناول هذه التطورات غير مرة ولكن من المهم القول، تكراراً، إن الإعصار كان يضرب، ومن المهم القول، تحديداً، إن ارتفاع التحديات كان يصادف لحظة حرجة لبنانياً وسورياً وهذه اللحظة الحرجة هي توفر قناعة راسخة لدى قطاعات شعبية واسعة في البلدين بأن لا مجال لتعليق الآمال على مشروع إصلاحي لا في لبنان ولا في سورية. والخلاصة السياسية من ذلك أن ما جرى تقديمه بأنه إصلاح انتهى إلى تشديد القبضة أولا، وثانيا، وهذا الأهم، إلى تضييق القاعدة الشعبية للسلطتين في بيروت ودمشق.

لقد دخل البلدان في مواجهة شرسة مفروضة عليهما من دون تأمين الحد الأدنى الواجب من عدة المقاومة الناجحة. ثم كان ما كان..

نحن، اليوم، في المحطة الخامسة. لقد استقر الوضع اللبناني على توازن هش إنما تملك الأرجحية فيه قوى سياسية تمثل الحريرية عصبها والجنبلاطية صوتها الأعلى. إن ما أعلنه خدام من «منفاه» الباريسي هو محاولة إيجاد ترجمة سورية للانتصار الذي حققه حلفاؤه اللبنانيون على خصومه السوريين (واللبنانيين). وربما كان انتحار غازي كنعان التعبير عن العجز عن المجاهرة بذلك في دمشق. والواضح الآن أن الخط الذي يرسم التباينات السورية واللبنانية هو نفسه الذي حدد المعسكرين في سورية ولبنان سابقا. إن هناك من يريد أن يقطف في سورية ثمن انتصاره اللبناني وهناك من يريد حرمانه هذا الانتصار في لبنان أولا. إن الصراع مفتوح وخطير ومتصاعد والحياد هو الخيار الأصعب.

■ جوزف سماحة  

 

عن صحيفة السفير اللبنانية

آخر تعديل على الخميس, 03 تشرين2/نوفمبر 2016 14:36