انتخابات لبنان: انزياح المزاج الشعبي نحو إرادة الانتصار

جاءت نتائج انتخابات المتن الفرعية، وكذلك انتخابات بيروت في لبنان مؤخراً، لتشكل رغم اختلاف المشارب والولاءات السياسية للفائزين فيهما، مؤشراً جديداً على حالة الانزياح في المزاج الشعبي لدى الشرائح التي ضُللت كثيراً منذ ما قبل اغتيال الحريري، عبر اختراع ثنائيات وهمية تدعو لخوض معارك ثانوية بالوكالة عن العدو الأساسي في واشنطن وتل أبيب.

فمثلما جاء فوز مرشح التيار الوطني الحر على الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل في المتن ضربة قاسية لتيار السلطة، الذي ينتمي إليه الأخير، بنتيجة دفع من خلالها ذلك التيار فاتورة الاستزلام للخارج الأمريكي الإسرائيلي، لم يشكل فوز مرشح السلطة (المستقبلي) في بيروت على مرشح حركة الشعب اختلافاً كبيراً في الدلالة على حالة الانزياح تلك، بدليل قلة نسبة الإقبال على الاقتراع التي لم تتجاوز 19%. ومفهوم هنا أن الامتناع عن التصويت هو تصويت بحد ذاته، بما يعكس حالة السأم والاستياء حتى لدى القاعدة الشعبية المفترضة لتيار السلطة من زعاماتها التي لجأت، بسبب إدراكها لهذه الحقيقة فيما يبدو، لكل أساليب الترغيب والتهديد، والمال السياسي، والابتزاز، والتضليل، والتزوير، ولكن دون جدوى، رغم امتلاكها لأجهزة الدولة وأدواتها.
وبينما يأتي هذا الانتصار انتصاراً لخيار لبنان الحر، المقاوم، الوطن، المستقل، السيد حقيقةً، وليس ادعاءً (سنيورياً) ضائعاً في متاهات الارتهان للخارج والاستقواء به، يجن جنون قيادات السلطة، الذين اعتقدوا أن مجرد الارتباط بواشنطن وتل أبيب وباريس، وتأجيج المشاعر الطائفية والمذهبية، كفيل بإنجاحهم في مواجهة الاستحقاقات الشعبية التي «قرفت» من كل مظاهر الخنوع والتبعية والتآمر على لبنان ككل، على حساب لبنان ككل.
غير أن العمى السياسي، أو بالأحرى الانقياد الأعمى، للمشروع الأمريكي الصهيوني، ، أفقد هؤلاء، تحت وطأة الخسارة المدوية، صوابهم ودفعهم لأن يحفروا قبور استمرارهم السياسي بأيديهم، مؤكدين أنهم سلطة فئوية طائفية بغيضة مستعدة لالتهام أبناء لبنان تباعاً حفاظاً على مواقعها وتنفيذاً لما هو موكل إليها خارجياً، لتلجأ بالتالي إلى إطلاق شعارات عنصرية ضد شريحة لبنانية أخرى، هي «الأرمن» وحزب الطاشناق الذي يمثل أغلبيتهم، بعدما سبق لها أن نزعت سمة الوطنية عن شريحة «الشيعة» في لبنان، وتحديداً لدى قواعد حزب الله.
ودفع العمى ذاته أقطاب تلك السلطة، من شاكلة السنيورة ووزير ماليته، لأن «يفضحوا» وجود شبكة اتصالات هاتفية خاصة لدى حزب الله، وهو أمر طبيعي ومتوقع وربما معروف في لبنان. فمن الطبيعي أن يكون لدى حزب الله وجهازه العسكري الذي تولى ولايزال الدفاع عن لبنان، كل لبنان، شبكة اتصالات هاتفية، وإلا كيف يتمكن من تلبية متطلبات القيادة والسيطرة؟ ولكن الكشف «السنيوري» عن تلك الشبكة حالياً، وبطريقة استعراضية، وكأنهم «جاؤوا برأس غليص»، يكشف عن مدى ضيق الأفق والعمالة لدى هؤلاء.
بعض المحللين في الغرب قالوا إن اللبنانيين في المتن «وقعوا في الاختيار الخطأ مرة ثانية عندما أوصلوا مرشح المعارضة دون مرشح السلطة»، واستشهد هؤلاء بمثال الانتخابات الفلسطينية التي أوصلت حماس على حساب عباس في الأراضي المحتلة. ومعنى هذا أن الغرب «المهووس بالديمقراطية» يرصد بدقة حالة الانزياح في وعي أبناء المنطقة والنتائج المترتبة على ذلك على أرض الواقع، خلافاً للاتجاهات التي تدفع إليها كل الماكينة العسكرية، والإعلامية، والسياسية، والاقتصادية، والثقافية، الأمريكية-الإسرائيلية-الغربية، مستعينة بـ«المعتدلين» و«الليبراليين» و«الشرعيين» و«الدستوريين» ورافعي العلم الأمريكي، استفزازاً، في بعض شوارع لبنان...
إن نتائج الانتخابات في لبنان، وعلى الرغم من كونها فرعية، إلا أنها تشير إلى اتجاه الأمور هناك إلى مزيد من الاستعصاء والاحتمالات المفتوحة، ولاسيما في ضوء سلوك السلطة، قبل تلك الانتخابات، وفي أثنائها، وفي أعقابها، وهو استعصاء يبرز أمام واشنطن وتل أبيب اللتين تعانيان من استعصاءات مماثلة في الأراضي المحتلة، لن يجدي معها التلويح بإقامة الدولة الفلسطينية على أراضي الضفة وحسب، واستعصاء آخر في العراق، ذو طابع عسكري ترتفع فيه فاتورة الخسائر البشرية لدى قوات الاحتلال، ولن تجدي معه العربات المدرعة السبعة آلاف التي طلبتها تلك القوات من قيادتها، حماية لها، واستعصاء ثالث في سورية الثابتة على مواقفها الخارجية، ملوحة بالخيارات العسكرية لاستعادة الجولان، واستعصاء رابع مع إيران، التي تؤكد أنها لن تتزحزح في مسألة حقوقها النووية، وربما استعصاء خامس في مصر، ولكن على المستوى الشعبي، الذي عادت بعض أوساطه، ولو على مستوى ضيق لترديد أغاني الشيخ إمام. ويعكس كل ذلك في مجمل وجوهه جوانب من أزمة المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة، دون أن يعني هزيمته الكلية.
ومع بروز المزيد من معالم الاستعصاء تلك، فإن السؤال التلقائي الذي يفرض نفسه هو مرة أخرى: إلى أين ستمضي الأمور؟ وهل سيتبع قادة واشنطن وتل أبيب، وحلفاؤهم وأزلامهم، العقل و«تخونهم الشجاعة» ليتراجعوا؟ أم سيمضون في مخططاتهم، محكومين بأزمتهم نحو المجهول، بالنسبة إليهم، والمحكوم بالانتصار بالنسبة للشعوب والتيارات الوطنية في قياداتها، إذا ما أحسنت التحضير والتدبير، معبرة عن إرادة الشعوب في التحرر والمقاومة والكرامة، مستلهمة تراثها الغني في ذلك، والذي لم ولن يكون آخره الانتصار العظيم في تموز 2006.