هل هناك مخرج حقيقي من الأزمة المالية؟

على العكس مما يعلنه العديد من المحللين، لا يتمثل هدف عملية المضاربة الهادفة إلى زعزعة اليورو في الإضرار بـ«الديمقراطية الأوربية». أورد هنا مقتطفاً من نصٍّ نشرته مؤخراً صحيفة لوموند: «هذه الحوكمة المالية العالمية (التي اقترحها رئيس صندوق النقد الدولي) مع وضع الاقتصادات الوطنية وتدمير الديمقراطيات». يتذكّر الجميع أنّ إنشاء الاتحاد الأوربي واليورو كانا عمليتين معاديتين للديمقراطية وللوطنية حقاً. حين رفض الشعب الفرنسي اتفاقية «ماستريخت» بالاستفتاء، تخيّلت الحكومة الفرنسية والزعماء الأوربيون معاهدة لشبونة، ودفعت المجلس الوطني الفرنسي لتبنيه دون استفتاء خشية أن يرفضه الشعب الفرنسي مثلما فعل الشعب الايرلندي.

إنّ إنجاز حركة عولمة الاقتصاد وتابعه التبادل الحرّ عبر تدمير الحواجز الضريبية الحامية للصناعات الوطنية، وعولمة الإنتاج والتبادلات لا تشكلان تغيراً في الاتجاه المعادي للديمقراطية، بل تشكّلان خاتمةً حتميةً لنهاية العالم التي أطلقتها منذ بضع سنوات جولة كندي واتفاقيات «الغات»، وجولة أوروغواي التي تلتها.

يزعم المقال أنّ قادة صندوق النقد الدولي والمصارف المركزية، وكذلك المضاربين في البورصات، يحلمون بالاستفادة من الأزمة المالية التي استخدم عجزها المؤثّر الميزانيات القومية في بلدان الاتحاد الأوروبي لتحويل المسار بهدف إطلاق عملةٍ دوليةٍ وبنكٍ دولي مشترك، أي باختصار لإعادة إطلاق مشروع «بانكور». هذا الفهم خاطئ.

مؤخراً، قام رئيس صندوق النقد الدولي «دومينيك شتراوس كان» بإطلاق فقاعة الاختبار هذه بهدف تحديد موضعه في هذه المسيرة المالية الطويلة تحسباً لترشحه إلى انتخابات الرئاسة الفرنسية للعام 2012. هذا الرجل يعرف أكثر مما يعرف أيٌّ كان أنّ هذه العملة الدولية موجودة أصلاً، وهي الدولار الأمريكي، وأنّ هذا المصرف الدولي موجود أو شبه موجود، إنّه نظام الاحتياطي الفدرالي. لا تعتمدوا على هذا الصديق للأمريكيين لخلق عملة دولية منافسة للدولار الأمريكي. وبسبب محاولة بعض البلدان الأوربية، ومنها فرنسا، فعل ذلك بالمشاركة مع بعض البلدان الناشئة، ومنها الصين، تقع هذه البلدان اليوم في قلب الإعصار المالي. كان نظام بانكور المالي، الذي تخيله في العام 1944 جون مينارد كينز، المدافع المتحمس عن الاقتصادات الوطنية المتوازنة، يهدف إلى تعزيز الاقتصاد الوطني لكلٍّ من البلدان الأعضاء في الاتحاد المصرفي العالمي عبر التأكد من ألاّ يصبح أيٌّ من الاقتصادات اقتصاد فرط استهلاك (مدين)، ولا اقتصاد فرط إنتاج (دائن)، مثلما يشهد على ذلك المقتطف الذي يورده السيد نوشي في صحيفة لوموند: «نظامٌ دوليٌّ للدفع يعاقب البلدان التي تصدّر أو تستورد أكثر مما ينبغي. إذا ابتعد بلدٌ عن التوازن، يتمّ إرغامه على إعادة التقييم أو السماح له بخفض قيمة عملته وهذا أمرٌ لا يسمح به اليورو».

والحقيقة أنّ القوى الإمبريالية في ذلك الزمان، وعلى رأسها الولايات المتحدة، قد رفضت نظام بانكور لتجنب معاقبتها لفرط صادراتها أو وارداتها، وبالتالي معاقبتها على تبعيتها للمنتجات أو للأسواق الخارجية. لا تعتمدوا على هذه القوى نفسها لإعادة فرض الحمائية التي رفضتها تلك القوى في العام 1944 وتجهد لتدميرها اليوم.

التبادل الحر المتكامل هو الذي يسعى إليه الأمريكيون، وهو تبادلٌ حرٌّ يلعب فيه كلّ اقتصادٍ دوره الدولي التابع والمشايع، حيث توفّر المملكة العربية السعودية النفط الرخيص وتوفّر الصين المنتجات المصنّعة يدوياً وذات القيمة المضافة الضئيلة، وتوفّر اليابان وألمانيا المنتجات ذات التقنية الرفيعة والنوعية الجيدة، وتوفّر فرنسا الشمبانيا والكونياك ومنتجات الرفاه الأخرى، وتوفّر كندا الخشب والألمنيوم، وتوفّر جامايكا البوكسيت، إلخ. وتغذي كلّ هذه البلدان بضعة أسواق محظوظة، وعلى رأسها الأسواق الأمريكية والأوروبية الغربية واليابانية وبعض المحميات مثل أستراليا وكندا ونيوزيلندا و«إسرائيل». بالتعريف، جميع هذه البلدان تصدّر أو تستورد أكثر مما يجب. ينظّم الدولار، العملة العالمية، كلّ شيءٍ إلى هذا الحدّ أو ذاك، ويصدّر الأمريكيون القدر المطلوب من الدولارات ممولين بذلك خساراتهم، على حساب الآخرين.  لفهم المصدر الأول للأزمات المالية التي تهزّ النظام الاقتصادي العالمي دورياً، ينبغي فهم التناقض الرئيس الذي يدفع الاقتصاد منذ بنيت العولمة على دمار الاقتصادات الوطنية.

إنّها المفارقة بين العرض المتزايد للبضائع والخدمات بفضل أرباح الإنتاجية، وبين الطلب المتناقص لأنّ أرباح التطور الاقتصادي وزيادات الإنتاجية لا توزّع على جميع الفاعلين الاجتماعيين، بل تستحوذ عليها بنهمٍ أقليةٌ تزداد ثراءً لكنّها لا تستطيع استهلاك أكثر مما تستهلكه الآن- في مواجهة كتلةٍ من المستهلكين الذين يتزايدون فقراً واستدانةً وعجزاً عن الاستهلاك إلاّ بالاقتراض ولزمنٍ محدود. كلما فرضت «عقيدة» التبادل الحر نفسها دولياً، لاحظنا تقلصاً في الإنتاج العالمي لأنّ الاستهلاك (الطلب) لا يتبعها. الاقتصادات الدولية تدمرت، قدرات الإنتاج الوطنية صفّيت وتمّت التضحية بها على مذبح الإنتاجية، انخفاضٌ في الأجور وتقليصٌ للنفقات، الوظائف تدمرت، صدّرت إلى بلدان الجنوب الناشئة حيث يتم دفع أجور اليد العاملة ولا تستطيع تعويض أسواق الشمال الضائعة.

سوف تؤدي الوصفة التي يقدّمها الاقتصاديون المؤثّرون والمتمثلة في خفض عجز الميزانيات عبر ضغط النفقات الحكومية إلى مزيدٍ من تسريح العاملين وانخفاض دخل العمال- المستهلكين وبالتالي مقدار أقل من الدخل بالنسبة للدولة (انخفاض الضرائب الاستهلاكية، تقليص عوائد ضريبة القيمة المضافة والضرائب على الأجور، الخ) ومزيدٍ من الكلف الاجتماعية لدعم العائلات المعسرة. باختصار، يفاقم الحل المقترح ابتعاد الحكومات عن إمكانية الوصول إلى توازن الميزانية.

للإفلات من هذا النظام النزاعي الذي يوصل جميع الاقتصادات الوطنية إلى الإفلاس، سعت بعض الدول إلى تصوّر نظامٍ جديدٍ لتحويل العملات مقابل بعضها بعضاً، لا إلى تصوّر عملةٍ كونيةٍ جديدة، لا فائدة منها. يتمثّل هذا النظام في سلّةٍ من بعض العملات القوية ومن بينها الين واليورو والريل واليوان والريال، تستند إلى الذهب، القيمة الملجأ، كمعيارٍ للتحويل، وتتذبذب هذه السلّة وفق السوق. سوف يسمح مثل هذا النظام، الممكن تماماً والقابل للتطبيق، بمخرجٍ مؤقتٍ من الأزمة النقدية ومن تبعية الاقتصاد العالمي للدولار الأمريكي المثقل بأكبر دينٍ على المدى الطويل وأضخم عجزٍ في الميزانية حالياً وأكبر عجزٍ تجاري في التاريخ.

إنّ المضاربين الماليين ومضاربي البورصة الدوليين، لا يسعون إلى تدمير اليورو، بل يسعون إلى إخضاعه، بالتساوي مع الدولار، بحيث لا يعود اليورو يطمح إلى تقديم نفسه بوصفه بديلاً للدولار المنحدر. بعد هذه العملية، سوف تتأدب الصين واليابان وروسيا وفنزويلا وإيران، وكذلك جميع الطامحين لإخراج اقتصادهم من سيطرة التبادل الحر. لكن لسوء الحظ، لا تحلّ هذه البلدان الساعية لإخراج نفسها من سيطرة الدولار التناقض الأساسي للاقتصاد العالمي بين العرض المتزايد والطلب المتناقص القادر على التسديد، بل تطبّق حل «دولار» دون دولار.

لا يخطئ المحللون تماماً حين يؤكدون بأنّ: «العولميين، بمن فيهم دومينيك شتراوس كان، يريدون استغلال الأزمة الاقتصادية التي يعلمون أنّه يجري تنظيمها بمهارةٍ بمساعدتهم في عالم الأموال والمضاربة، وأنّهم يواصلون مفاقمتها بهدف المزيد من تركيز قوة التنظيم المالية عالمياً بين أيدي البعض على حساب الشعوب والأمم ذات السيادة».

لكنّهم يخطئون التاريخ فقط، إذ لم يعد لسيادة الأمم وجودٌ عملياً، فقد تمّت التضحية بها أثناء انضمامها إلى اتفاقيات الغات وغيرها، وبالنسبة لأوربا حين انضمّت إلى معاهدة ماستريخت، ثمّ إلى اتفاقية لشبونة.

يتوجب اليوم على شعوب أوروبا وأممها استعادة سيادتها، وربما تتمكّن حينذاك من إعادة تفعيل اقتصادها الوطني وتطوير التبادلات الثنائية بين البلدان ذات السيادة والتجارة، خارج التبادل الحر المدمّر.