أوباما – أردوغان، السوريون، والإصلاح

يكرر الساسة في الولايات المتحدة وأوربا وتركيا مقولة ضرورة تنفيذ السيد رئيس الجمهورية عملية الإصلاح، ليعطفوها: «وإلا..»!

 

وفي المقابل فإن العملية كمطلب كان يرددها ولايزال أبناء الشعب السوري في حين أعلنت الدولة وبدأت تصدر حزمة من الإصلاحات.

ولكن بطبيعة الحال فإن المشترك في المجرد يختلف عنه في الملموس على خلفية المصالح والإرادات على اعتبار أن الإصلاح الأمريكي الأوربي التركي يريد علاقة تبعية، في حين أن الإصلاح المنشود شعبياً يريد تعزيز استقلالية سورية وسيادتها.

وبالمثل يكثر الحديث العام شبه الضبابي في الشارع ولدى النخب، من أطراف مختلفة وأحياناً متباينة سياسياً وطبقياً عن مطلب «إعادة توزيع الثروة»، ليبدو بعد التدقيق أن بعض الأطراف تريد توظيف ذلك ضمن الاصطفافات الطائفية المقحمة على الشارع السوري، بمعنى «إعادة اقتسام الحصص برجوازياً»..

وبالتالي فإن ورقة عباد الشمس الكاشفة كيميائياً لكل ذلك تكمن في تحديد طبيعة خط التنمية الاقتصادي الاجتماعي المتبع، ومصالح أية شرائح اجتماعية سوف يخدم بالمعنى الأوسع، وأي نمط ودرجة من إعادة توزيع الثروة سوف تتبع.

إن الحرية والديمقراطية هما مطالب جدية ومستحقة، ليبقى جوهر الجوهر فيها هو بأي مضمون؟ ولتحقيق أية غايات؟ على اعتبار أنها ليست مفاهيم مطلقة ونواح شكلية فحسب، بل هي تعكس توازن قوى محدد في الدولة والمجتمع وعلى الأرض لضمان تحقيق مصالح محددة لشرائح وقوى محددة، ليكون السؤال الفعلي هو حرية من على حساب من وديمقراطية/ ديكتاتورية من على حساب من؟

أكدنا سابقاً على أن «طبقة الفساد السورية» التي نشأت وترعرعت في كنف نمط التنمية المشوه، الذي ادعى الاشتراكية ردحاً من الزمن في سورية، وما أنتجه «تكيفاً» في مراحل لاحقة من نمط رأسمالي أكثر تشوهاً ويغلب عليه الطابع الطفيلي، تمكنت من الاستحواذ على القرار الاقتصادي في البلاد، وحذرنا من أنها عبر المؤامرات والجيوب والاختراقات وتحديداً في جسد الدولة وفي داخل وعلى تخوم قطاعاتها الاقتصادية، تريد الاستيلاء على القرار السياسي، على قاعدة «من يملك يحكم ومن لا يملك لا يحكم»، وعلى اعتبار أن توسعها الفطري أصبح يستدعي إيجادها للمعبر السياسي عن مصالحها الاقتصادية، بما يعنيه ذلك بالنسبة إليها تنفيذ المخطط الأمريكي للقضاء على المقاومات وأرضياتها الشعبية وحواضن تقويتها بمعنى نموذج التنمية المعتمد، حيث كان يجري هذا التنفيذ إما بالتراكم التدريجي السلبي أو باللجوء إلى أشكال «الفوضى الخلاقة الأمريكية» لركوب موجات الاستياء والاحتقان والانفجار والاحتجاج الشعبي في وجه هذا التراكم ومفرزاته التدميرية.  

بموازاة ذلك كان المشهد السياسي إقليمياً ودولياً يزخر بمؤشرات ترويج واشنطن وتعزيزها لما يسمى بـ«الإسلام المعتدل سياسياً»، وتحديداً في تونس ومصر ما بعد الثورة قياساً بـ«النموذج التركي» الموصوف بالرائد، والذي كان تتويجه في النصف الأول من العام الجاري يتمثل في إنهاء دور «بن لادن»، وذلك لأن واشنطن ترى في هذا الترويج امتداداً لسياستها لأن التيار المذكور في هذين البلدين مثلاً لا تختلف معه الولايات المتحدة لأن من شأنه إعادة إنتاج نظامي بن علي ومبارك البائدين بحكم عدم اختلاف الحامل الاقتصادي الاجتماعي لهما ذي توجهات التنمية الليبرالية اقتصادياً التي لا تحقق عدالة اجتماعية، ولا تكافح فساداً بالمعنى الفعلي، إلا باستهداف وجوه معينة في لحظة معينة ضمن أطر محاسبة مؤسساتية معينة- وهي حالة متقدمة بالنسبة للواقع السوري دون أن يعني ذلك أنها النموذج المنشود لأن المنظومة الاقتصادية الليبرالية كفيلة بإعادة إنتاج الظاهرة، بدليل الأزمة الاقتصادية الأمريكية وواقع الفرز الطبقي في المجتمع التركي وتكرار ظهور قضايا الفساد والاحتيال، وما شابه.

يشكل هذا التمييز وهذا المنظور أحد عناصر الحوار الوطني المطلوب أن يكون شاملاً لكل الملفات الوطنية المتراكمة، وضمن هذا المنظور أيضاً يمكن إعادة صياغة حالة التلقف المتوجس لدى شرائح من السوريين من أوساط مختلفة وأرضيات فهم متباينة لمرسوم العفو الأخير بتاريخ 31/5/2011، طارحين السؤال عن دور هذا المرسوم ووظيفته المطلوب تحقيقها داخلياً، تكريساً للوحدة الوطنية التي تم العبث بها مؤخراً، وليس استرضاءً أو تأريضاً لأحد في الداخل والخارج.

في شقه السياسي يشكل مرسوم العفو من حيث المبدأ انفراجاً مطلوباً وتحقيقاً لمطلب طال انتظاره بحق معتقلي الرأي والسجناء السياسيين. ولكنه عندما خص وأبرز «الإخوان المسلمين» كان ينبغي أن يكون مشفوعاً بعبارة واضحة تؤكد «شريطة تقديم هذا التنظيم اعتذاره الكامل للشعب السوري عن الجرائم التي اقترفها سابقاً في سياق نشاطه». وإن الدور المطلوب من هذه العبارة هو وضع هذا التيار تحت الرقابة الشعبية، وإحداث التمييز المطلوب بين المدان المعترف والطالب للسماح عن جريمته وبين من سيعد نفسه، بغير ذلك، «مناضلاً سياسياً انتزع حريته أخيراً»..!

أما فيما يتعلق بالعفو عن الجرائم الجنائية والاقتصادية وبعض استثناءاتها منه في المقابل، فإنه من وجهة نظر إصلاحية، إذا كان هناك توجس من أي ظلم في أي من هذه الحالات فإن ذلك لا يستدعي العفو، بل إعادة المحاكمة حسب كل حالة ضيم مثبتة أو مشكوك بها.

فبغض النظر عن الإشكاليات الكبرى في جسد المؤسسة القضائية والأشكال المحتملة لإساءة استعمال السلطة القضائية، فساداً أو تحت الضغط، والتي تم البدء بتناولها إعلامياً بشكل أو بآخر، فإن القانون من حيث المبدأ عندما يعاقب المجرم فإنه يبتغي مكافحة الجريمة ويسعى للحد منها. وعليه فإن معاقبة العابثين بأمن الوطن والمواطن، أينما كانت مواقعهم في المجتمع أو جسد الدولة، وفي مختلف المرافق وفي مقدمتها الاقتصادية والمتداخلة مع الفساد، هي مكافحة لا تقل أهمية، وإن محاكمتهم، في ظل سلطة قضائية مستقلة حقاً، ليست عملية انتقامية من شخوصهم بقدر ما هي سعي لتفتيت البنية والحوامل والحد من انتشار ممارساتهم وانعكاساتها الخطيرة على وحدة البلاد ولقمة وحرية العباد والتي أوصلت سورية إلى المنزلق الخطير الذي تعاني منه حالياً.

إن الشعب السوري، الذي يعلن تمسكه بالحفاظ على الوحدة الوطنية والتنوع الاجتماعي الفريد وخلق قوة الداخل لاستعادة قوة الخارج وتعزيز سبل المواجهة، يريد إصلاحاً إنقاذياً للوطن ضمن التحديات القائمة تاريخياً والمستجدة، إصلاحاً يغير منظومة الإحداثيات التي حكمته سابقاً وشكلت مادة لانفجار بعض مناطقه مع ملابسات ذلك وتداعياته، وإحجام بقية المناطق والفئات والمجموعات الاجتماعية عن الانضمام إليه تريثاً زمنياً مؤقتاً يراهن على الإصلاح ويرفض التصنيف على خانة الاختراق الخارجي.

وإن المنظومة الجديدة التي يسعى إليها أو يتمنى على الأقل تحقيقها تقوم على إعادة توزيع الثروة بين الأجور والأرباح بشكل عادل لمصلحة  غالبية شرائح المجتمع، على أن يمر ذلك عبر مكافحة جدية تجتث مراكز الفساد الكبرى أينما كان موقعها، لأن من شأن ذلك أن يبقي على استمرارية فاعلية الخيارات الوطنية السورية في التحرير والتحرر والسيادة الوطنية وتعزيز منظومة القوة لتنتقل البلاد في وجه الاحتلال والتهديدات والأطماع الداخلية والخارجية المستمرة من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم وفي ذلك تكمن إعادة الاعتبار لضمانات كرامة الوطن والمواطن.

الأربعاء 1/6/2011   

o.bozo@kassioun.org