تناقضات المحور الواحد:  الضرورات الأمريكية أولاً..!

تناقضات المحور الواحد: الضرورات الأمريكية أولاً..!

بالنظر إلى طريقة التعاطي السياسي- ومن خلفه الإعلامي- مع الأحداث الجارية في المنطقة من قبل الغرب، نرى أن إحدى سماته اليوم تنعكس في كثافة التصريحات، وتناقضها في كثير من الأحيان، حتى أن السلوك السياسي لأطراف المعسكر الغربي يبدو متضارباً، ليعبر بذلك عن فرق استقطاب واسع الطيف، يفعل فعله في مجمل منظومة العلاقات الدولية القديمة التي بنيت في مرحلة تراجع الاتحاد السوفييتي، وبعد تفككه.

في الأعوام الأخيرة، جرى الصراع الدولي حول ملفات عدة امتدت مساحات تأثيرها من أوكرانيا إلى سورية وإيران وليبيا واليمن.. وغير ذلك، قبل أن يجري حسم تلك الملفات من حيث الجوهر، بفعل التبدلات الحاصلة في موازين القوى العالمية، هذه التبدلات التي انعكست بدورها في تغييرات طالت طريقة تعامل المحور الأمريكي مع حلفائه وأدواته في المنطقة.


من خلال الملفين الأوكراني والنووي الإيراني على سبيل المثال لا الحصر، والتفاعلات السياسية والدبلوماسية التي جرت خلالهما، يمكن تلمس الانخفاض الجاري في مستوى التحكم الأمريكي وقدرته على فرض ما تمكن من فرضه في ملفات مشابهة خلال العقدين الماضيين، كفرض التدخل العسكري المباشر في أوروبا الشرقية، وتفكيكها فيما بعد، وفرض حل «البرنامج النووي الليبي» بالتهديد، واستخدام «أسلحة الدمار الشامل العراقية» كذريعة لغزو بغداد ونهب العراق.

فاشي- «عقلاني»

بني التراجع الأمريكي أساساً على الأزمة العميقة التي تواجهها المنظومة الإمبريالية في العالم، والتي تشتد في المركز الأمريكي، ومن جهة أخرى، على ظهور قوى صاعدة في العالم ترفض الهيمنة الأمريكية بشكل مطلق، وتعمل على إرساء عالم متعدد الأقطاب خال من «شرطي عالمي» يضبط حركته حسب سقف مصالحه هو.
وفي سياق المنطق البراغماتي الذي تعتمده الإدارة الأمريكية في رسم سياساتها على المستوى العالمي، فإن مصالح التيار الفاشي داخل الإدارة الأمريكية تبدو اليوم، في ظل الموازين الدولية الجديدة، محكومة بأمرين: تلقي أقل الخسائر الممكنة في الملفات المحسومة من حيث المبدأ، كما هو الحال في سورية واليمن مثالاً، ونقل الاشتباك إلى مستويات تتماهى مع حجم الصراع الدولي المستعر، أي نحو تخوم روسيا والصين اللتين تسيران بخطى ثابتة نحو صياغة علاقات دولية تحافظ على السلم العالمي، الذي يبدو اليوم بمثابة مقتل لقوى رأس المال المالي العالمي الإجرامي.
ومن خلال الصراع الجاري بين التيارين الفاشي و«العقلاني» داخل الإدارة الأمريكية، تبدو سياسات الأخيرة تعبيراً عن محصلة هذا الصراع، المحصلة التي تقود إلى تظهير موقف واشنطن من خلال «سياسات التراجع المنظم» في المنطقة، مع الاستفادة من «الهبات» والنزعات «الحربجية» المجانية لدى الحلفاء الإقليميين.

الفاشيون يورطون حلفاء واشنطن

الثابت في التعاطي الأمريكي مع ملفات الشرق الأوسط، بعد حسم الملف النووي الإيراني تقريباً، يكمن في تجنب أي تدخل عسكري مباشر غير محسوب النتائج في المنطقة. في المقابل، فإن إشغال الخصوم الدوليين والإقليميين في دوامات الاشتباك إلى أمد طويل، هو أحد عناصر «التراجع المنتظم»، والأداة الأساسية هي في قيام التيار الفاشي بدفع الحلفاء الإقليميين، السعودية وتركيا خصوصاً، نحو تأجيج الصراع في المنطقة، حتى لو استدعى ذلك توسع رقعة الحريق لتشمل الحلفاء أنفسهم، لكن على قاعدة: «لن نتدخل من أجل أحد»، إذ «يهمس» التيار الفاشي بأذن السياسيين في السعودية وتركيا، بأن تغييراً في السياسات الأمريكية متعلق بتغيير الإدارة الأمريكية الحالية، قاب قوسين أو أدنى من التحقق.
يفسر ما سبق التصعيد السياسي العسكري المستمر من حلفاء الولايات المتحدة وأدواتها في المنطقة، كما هو الحال في الصراع الإعلامي الدائر حول فكرة التدخل البري في سورية، ونفي وجود خطة مشتركة أمريكية- تركية لهذا التدخل، أو الدفع بالسعودية للتصعيد في اليمن. لكن أين حدود هذا التصعيد من وجهة نظر الولايات المتحدة؟

خطوط أمريكية حمراء

في المرحلة الراهنة، يكمن تباين المصالح بين الولايات المتحدة وحلفائها بنوعية الميزان الذي تقاس فيه السياسات المرتبطة بالملفات السياسية المختلفة، فالولايات المتحدة تضبط «انتصاراتها» كما «خساراتها» على الميزان الدولي للنفوذ الاقتصادي- السياسي، باعتبارها قوة دولية كبرى، فيما تزِن القوى الإقليمية سياساتها انطلاقاً من حسابات إقليمية ضيقة.
في مرحلة الهيمنة الأمريكية، سمح التحكم الواسع بالملفات الدولية غربياً، بهامش كبير من خيارات التفاهم مع الحلفاء الإقليميين، وإن ظهرت الخلافات بالحدود الدنيا، كما في حال اعتراض تركيا على مشاركتها بالتدخل المباشر في العراق إبان الغزو الأمريكي عام 2003، إلا أن التقدم الأمريكي الواسع سمح بحلحلتها، وتأمين البدائل في حينها، دون الإضرار بمصالح الطرفين.
أما اليوم، فنتيجة اعتماد تركيا والسعودية على الولايات المتحدة في ضمان النفوذ الإقليمي، تجد تركيا والسعودية نفسها في ورطة ترجح خسارة جزء كبير من النفوذ الإقليمي لصالح القوى الصاعدة في المنطقة، وفي مقدمتها إيران ومصر التي تمضي، بهذا الشكل أو ذاك، في نزع العباءة الأمريكية عنها بشكل تدريجي.
تدرك الولايات المتحدة هذه الحالة المستجدة في علاقتها مع تركيا والسعودية، وعليه، فإنها تضع خطاً أحمر عماده عدم المساس بمصالحها الاستراتيجية، فيما تتوهم هاتان الدولتان بقدرتهما على دفع الولايات المتحدة نحو ساحة الصراع بشكل مباشر، للحفاظ على مصالحها الإقليمية التي لا توافق الولايات المتحدة على ضمانها «بلحمها ودمها»..!

القوة الناعمة والقوة الخشنة

خلال الأسبوع الماضي، شغلت فكرة التدخل العسكري التركي السعودي في سورية حيزاً واسعاً من التغطية الإعلامية المكثفة. ورغم اختلاف المنابر التي تحدثت حول الموضوع، إلا أن معظمها تجاهل الحقيقة الماثلة في أن خيار التدخل البري في سورية، إن كان سيجري فعلياً،  هو ليس خياراً تركياً أو سعودياً، إنما هو في المطاف الأول أمريكي.
من هنا، فإن الولايات المتحدة تخشى- من خلال سلوك الأتراك تحديداً- من محاولات زج «الناتو»، بهذا الشكل أو ذاك، في هذه المعركة وتداعياتها المباشرة، التي على الأقل ستحرج الحلفاء غير القادرين على حماية أعضاء التحالف بفعل الموازين الدولية الجديدة.
في هذا السياق، اعتبر اللواء، مايكل باربيرو، المسؤول السابق عن تدريب قوات «الناتو» في العراق، أنه «يتوجب» على الولايات المتحدة أن تتعامل بشكل «أكثر شدة» مع تركيا، بعد قصف الأخيرة لعدد من المواقع في الشمال السوري.
وعليه، فإن إصرار السعودية وتركيا على سلوك الابتزاز هذا، يحدو بالولايات المتحدة إلى إبداء «الخشونة» تجاه الحلفاء، بما تملكه واشنطن من نفوذ داخل هذه الدول، التي تعاني أصلاً من تناقضات كبيرة داخلها على الصعيد السياسي والاقتصادي. فالولايات المتحدة ذات النفوذ المؤثر داخل تركيا، تحمل بيدها ورقة ضغط مؤثرة على الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي تعارض بعض القيادات في الجيش التركي سلوكه علانية، كما برز في حادثة إسقاط القاذفة الروسية «سو- 24»، أو فيما دار مؤخراً بعيد اجتماع اللجنة الأمنية في أنقرة، حسب صحيفة «حرييت» التركية، حول رفض بعض الشخصيات العسكرية المتقاعدة، ولكن ذات الوزن، صيغة التدخل البري في سورية، دون تفويض من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.