«كينزية» التسليح والصفقة الأمريكية السعودية
د. بيتر كاسترز د. بيتر كاسترز

«كينزية» التسليح والصفقة الأمريكية السعودية

وفقاً لتقارير مختلفة، التأم شمل الكونغرس الأمريكي في موضوع المصادقة على صفقة لبيع عملاقة النفط، المملكة العربية السعودية، منظومات عسكرية يُقدّر إغراء قيمتها بستين مليار دولار. ورغم أن مدة التسليم تمتد لعشر سنوات، تُعتبَر الصفقة الأكبر في تاريخ المملكة، وتشمل، فيما تشمل، توريد 85 طائرة «إف 15»، وتحديث سبعين طائرة، اشترتها المملكة سابقاً، من الطراز ذاته المعتبَر جيلاً قديماً، نسبياً، لكنه معروف بفعاليته التدميرية. وتنتجه شركة «بوينغ»، ثاني أكبر مزود للبنتاغون بالأنظمة العسكرية، وواحدة من أكبر شركات الصناعات العسكرية المعولمة.

لا شك في انشراح صدر مدراء بوينغ ومالكيها، إلى جانب «يونايتد تكنولوجيز» ومنتفعيها التابعين، لنجاح جهود اللوبيات المؤيدة لهم في الكونغرس. ولكن كيف يمكن تقييم عواقب الصفقة على منطقة الشرق الأوسط، حيث خسر ملايين الناس حياتهم خلال العقود الثلاثة الماضية نتيجة حروب عدة؟ وكيف يمكن تقييم الصفقة على ضوء تجربة تصدير الغرب للأسلحة في الماضي؟

 

 

ترجمة موفق اسماعيل

«الأخضر الإسرائيلي»

بدايةً، من الملاحظ أن «إسرائيل»، حليف الولايات المتحدة الرئيسي في الشرق الأوسط، لم تعترض، بل أعطت «الضوء الأخضر» لعقد الاتفاق الأمريكي- السعودي. ولم يحتج الأمر أكثر من زيارة قصيرة قام بها وزير «الدفاع» الإسرائيلي إيهود باراك إلى واشنطن لتخفيف التوتر الناجم عن خطط عقد الصفقة التي تخشى «إسرائيل» من تعارضها مع مصالحها الإستراتيجية. وحسبما تفيد التحليلات، تم إرضاؤها، من ناحية أولى، بتزويد الطائرات المباعة للسعودية بمجسات تكنولوجية حساسة تمنع استخدامها ضد المقاتلات الإسرائيلية، وفقاً لما أوردته صحيفة «ذي غارديان» البريطانية. ومن ناحية ثانية، ببيع «إسرائيل» أحدث طائرة عسكرية أمريكية، من طراز «إف 35»، التي تصنّعها شركة لوكهيد مارتن، مما يضمن لإسرائيل استمرار تفوقها الجوي على كل منافسيها في الشرق الأوسط.

مرة أخرى، يؤكد ثالوث دبلوماسية التفاوض حول الصفقة السعودية مدى نفوذ اللوبي الإسرائيلي في العاصمة واشنطن. والنتيجة، كما يتبين من بيع طائرات «إف 35»، تقديم هدية أخرى لصنّاع الأسلحة الأمريكيين، ولواضعي السياسة الاقتصادية للدولة. فمبيع هذه الطائرة المقاتلة يشي بطريقة إدارة الحكومة لعلاقاتها مع القطاع العسكري وتوظيفها في عملية تحفيز مجمل نمو الاقتصاد الأمريكي.

وقبل تفصيل النقطة الأخيرة، نلحظ أن صفقة بيع الأسلحة للسعودية ليست سوى حلقة من سلسلة، بدأها واضعو سياسة الولايات المتحدة في سبعينيات القرن الماضي. فبعد أزمة نفط عام 1973، التي سببها تصميم منتجي النفط في الشرق الأوسط، وغيرهم من خارجه، على رفع أسعار البترول الخام، ابتكر مسؤولو الحكومة الأمريكية آلياتهم التجارية الجديدة.

الدافع الاقتصادي

بدل مواجهة ضغوط منتجي النفط، سعت الولايات المتحدة للاستفادة من ارتفاع مداخيل دول الشرق الأوسط المنتجة للنفط، ومن الواضح أنها استطاعت إقناع السعودية وإيران بتوجيه جزء هام من مواردها المالية الإضافية نحو شراء الأسلحة من الغرب. ويجد هذا النظام التجاري مثاله في عقد اتفاقية «اليمامة» في الثمانينيات، القائمة على أساس مقايضة السلاح مقابل النفط، بين بريطانيا والسعودية.

من حيث حجمه، يفوق الاتفاق الحالي، السعودي الأمريكي، اتفاق اليمامة. ورغم عدم وجود دليل ظاهر يثبت عقده على أساس المقايضة، لا شك في أن الحكومة السعودية سوف تدفع ثمن فواتير تسلحها المستقبلية من عائدات ثروتها النفطية، الأضخم في العالم.

كما يعد الاتفاق استمراراً لسياسة «الإستراتيجية قيد التنفيذ» التي اتبعتها إدارة كلينتون، في أواخر التسعينيات، وطوّر البنتاغون، استناداً إليها، أفكاراً جديدة لتمكين الحكومة الأمريكية من الاتكاء مجدداً على القطاع العسكري كرافعة لتنشيط الدورة الاقتصادية للولايات المتحدة. وخوفاً من أن يؤدي الاعتماد التام على إنفاق الجيش الأمريكي بهدف تحقيق نمو اقتصادي كامل إلى الركود (مجدداً!)، استقرت إدارة كلينتون على شكل من أشكال ما اصطلح على تسميته، نظرياً، بالماكينزية العسكرية.

وعوضاً عن محاولة إحرازها نمو ماكرو- اقتصادي من خلال توسيع الميزانية العسكرية فقط، سعت الحكومة الأمريكية، منذ ذاك الحين وصاعداً، إلى تحقيق الهدف ذاته عبر الاعتماد الإضافي على تصدير السلاح، وفي المقام الأول طائرات الـ«إف» بأجيالها المختلفة.

في المرحلة الأولى، منذ أواخر التسعينيات وطيلة العقد الأول من الألفية الجديدة، واظبت الحكومة الأمريكية على بيع الطائرات الحربية وصنوف أخرى من الأسلحة للحكومات الأوربية، وبشكل ثانوي للقوى الصاعدة في آسيا، كالصين والهند. أما الآن، فيبدو أن إكمال الدورة يقتضي إيصال صادرات السلاح للشرق الأوسط، لدفع عجلة الاقتصاد الأمريكي. ومن هذا المنظور، تكتسب الصفقة أهمية إضافية، نظراً إلى عقدها بالتزامن مع تسليح الجيش العراقي، بعديده البالغ 600 ألف جندي، حسب ما أعلنه العراق من إقدامه على شراء أسلحة قيمتها 16 مليار دولار، تتضمن عدداً كبيراً من المقاتلات الجوية.

ألغام الاستقرار

ولكن من أين لكل هذه المبيعات الحربية المتزامنة أن تعزز «استقرار» الشرق الأوسط؟ رغم إصرار المسؤولين الأمريكيين على أن الحفاظ على استقرار المنطقة هو الهدف الرئيسي لصفقة السلاح الأمريكية- السعودية، إلا أن هذه المليارات المصروفة على التسلح، من المنظور الاجتماعي وحده، تمثل خسارة كبيرة لشعوب الدول الشرق أوسطية المجبرة على شراء الأسلحة الغربية، تحت الضغط. أما عن مقولة «تعزيز استقرار» المنطقة، فتوجد أسباب تدعو ليس إلى التشكيك بها فقط، بل إلى التعلم من تجارب التاريخ وقرع نواقيس الخطر.

من الخطأ، بالتأكيد، اعتبار أن اندلاع حروب الخليج الثلاث كان سببه الأوحد صادرات السلاح للمنطقة، فهناك أسباب أخرى لدى الأمريكيين. إنما، في جميع الأحوال، لا شك في أن صادرات السلاح كانت من العوامل الأساسية في تغذية الحروب الإجرامية. ووفقاً للتقارير الإخبارية المتنوعة، كانت حرب الخليج، عام 1991، المتذرعة بتحرير الكويت، مسرحاً لاستعراض كفاءة صواريخ باتريوت وأنواع أخرى من الأسلحة الأمريكية، لإغراء دول المنطقة بشرائها. ولذلك، على سبيل المثال، خلال الحرب العراقية الإيرانية، في الثمانينيات، سعت الولايات المتحدة لتزويد الطرفين بالأسلحة الغربية.

أخيراً، نظراً لتبني الولايات المتحدة المطلق لسياسة داخلية كينزية، بامتدادها الخارجي العسكري، أيُجانب المراقبون في الشرق الأوسط الصواب إذا اعتبروا أن للولايات المتحدة الأمريكية مصلحة فعلية في استمرار زعزعة استقرار المنطقة؟ وإذا كانوا محقين، فهل ستدور الحرب المقبلة على منطقتهم بين السعودية وإيران؟

*مفكر هولندي، باحث في مجال إنتاج الأسلحة، ومبادئ «الكينزية» العسكرية