المصالحة الفلسطينية  و«عقدة المنشار»

المصالحة الفلسطينية و«عقدة المنشار»

عادت الحرارة لتعيد الحيوية والحياة للساحة السياسية الفلسطينية بعد أشهر عديدة من الصقيع الذي كاد أن يجمد حراك فصائلها وحركاتها، والذي انعكس على نشاط وحيوية القوى المجتمعية أيضاً.

هذا الصقيع لم تستطع تفتيته، مهرجانات/ كرنفالات الصخب المفتعلة التي صاحبت «طلب عضوية فلسطين في الأمم المتحدة» والتي حصدت الفشل، كما كان متوقعاً. وإذا كان يريح البعض، تبرير ما حصل بربطه بما تشهده الأقطار العربية من ارتجاجات حادة- وفي هذا جزء من الأسباب- فإن سبر أعماق الحالة السياسية الفلسطينية، يشير إلى ربط كل حالة «السكون» بالأزمة العميقة التي تسيطر منذ سنوات، على المشروع الوطني التحرري للشعب الفلسطيني، من خلال أبرز تعبيراتها: هل نحن حركة تحرر وطني أم قوى تسعى لبناء «سلطات» تدير أرضاً ومجتمعاً تحت السيطرة والهيمنة المزدوجة للاحتلال، برنامج العمل الاستراتيجي والمرحلي في علاقته بمواجهة/ مقاومة كيان العدو الصهيوني، الارتهان لاستحقاقات «اتفاق أوسلو» سيئ الصيت، الهوة الواسعة بين القوى السياسية وجماهير الشعب التي برزت تجلياتها في أكثر من مناسبة، الانقسام السياسي/ الجغرافي بين الضفة وغزة، وامتداداته داخل المجتمع الفلسطيني في كل أماكن وجوده.

عادت قضية الانقسام في الأيام الأخيرة لتتصدر الخبر الأول، والتعليق المباشر في الصحافة الورقية والمواقع الالكترونية، من حيث تسارع التصريحات والمواقف الصادرة عن قادة الحركتين: فتح وحماس، التي أعادت إنتاج أهمية «المصالحة» الثنائية في هذه الفترة الحرجة، والتي عبر عن صعوبتها ومرارتها- إذا جاز التعبير- المستشار السياسي لحكومة حماس «أحمد يوسف» في مقاله المنشور مؤخراً «...إن الساحة الفلسطينية مأزومة وعالقة في وحل الخلاف بانتظار طوق نجاة يأخذ بأيدينا جميعاً، فالسلطة الفلسطينية بشكل عام وحركة فتح على وجه الخصوص ليست بأحسن حال من حركة حماس، فكلاهما يصرخ««إنيّ أغرق.. أغرق.. أغرق..». فهل ستكون المصالحة خشبة النجاة للحركتين؟.الجواب على سؤال كهذا، لابد أن يقفز عن الخصوصية الفصائلية، ليصل إلى المشروع التحرري للشعب، الذي يعاني من أزمات حادة، لن تكون الحوارات الثنائية بين الفصيلين أو جميع الفصائل قادرة على تلمس طرق علاجها والخروج منها، دون المشاركة الواسعة والمباشرة للقوى المجتمعية الناشطة في صفوف الشعب، والبعيدة عن الاستقطاب التنظيمي للفصائل.

على الرغم من التباينات في تحديد يوم اللقاء المرتقب بين مشعل وعباس، والذي حسمه أحد قادة حماس في التأكيد على أنه في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، بمعنى أنه سيتجاوز الافتراضات التي كانت تتحدث، بتواتر متلاحق، عن مواعيد لم يتم الالتزام بها على مدى الثلاثة أشهر المنصرمة! اللافت لنظر المتابعين لخفايا اللقاءات التي مهدت لاجتماع القاهرة المرتقب، ما نقلته وسائل إعلام عديدة عن القيادي في فتح «عزام الأحمد» مسؤول ملف المصالحة حول اللقاءات المتعددة التي جمعته مع «موسى أبو مرزوق» في القاهرة، والتي أثمرت عن إعادة وضع اتفاق المصالحة الذي تم توقيعه في القاهرة أوائل شهر أيار/ مايو المنصرم. وبالرغم من تكرار الحديث عن «المصلحة الوطنية العليا»، ومواجهة استحقاقات المرحلة التي أعقبت «معركة!» طلب العضوية، والتي ساد فيها الارتباك معظم التصريحات «حل السلطة»، والتصريحات المضادة «لن نحل السلطة لأنها ستنهار» مما أشار إلى أن الولوج للمصالحة، جاء هروباً إلى الأمام من أزمات كل فريق، كما عبر عنها «أحمد يوسف». وإذا كانت كل التبريرات غير الدقيقة، التي حاولت الإيحاء بأن فشل تطبيق  اتفاق أيار  يعود لتمسك       عباس وسلطة رام الله المحتلة بـ«سلام فياض» رئيساً للوزراء، فإن السبب الحقيقي وراء فشل التطبيق العملي للاتفاق يعود لعدم وجود إرادة سياسية جماعية لدى الحركتين، انطلاقاً من تفسير كل حركة لمبررات المماطلة والتسويف، الذي يعني «الهروب من التنفيذ».

كما يبدو فإن خروج سلام فياض من رئاسة الحكومة، سيزيل عقبة من طريق التنفيذ كما يردد أكثر من مصدر في فتح. وهذا التوجه لم يكن وليد حوارات ولقاءات الشهر الأخير، بمقدار ما جاء استجابة لضغط الكوادر الأساسية في الحركة لاستبعاد فياض الذي بدا منافساً شرساً لدور فتح في أكثر من مؤسسة ومحافظة داخل الضفة، وهذا ما عبر عنه «الأحمد» بقوله «لو كنت في موقع رئيس الوزراء الدكتور سلام فياض لكنت انسحبت منذ ستة أشهر لإفساح المجال أمام تشكيل حكومة وفق اتفاق المصالحة». وكان فياض قد دعا قبل أيام للطلب من الفصائل، للاتفاق على اسم آخر لرئاسة هذه الحكومة، حتى لا يقال انه يمثل «عقدة المنشار». وإذا كان الاتفاق على تفكيك وحل هذه العقدة، سيمهد لتشكيل حكومة اتفاق/ ائتلاف وطني، تبدأ للتحضير للانتخابات التشريعية والرئاسية في أيار/مايو 2012 أو للاتفاق على تقريب موعدها أو تأجيلها، فإن موقف حماس في هذه القضية، كان واضحاً من حيث عدم موافقتها على حصر المسألة في إنجاز اتفاق  تتحدد مهمته في التحضير للانتخابات فقط.

إن أي لقاء ثنائي أو جماعي، بهروبه للأمام من خلال الاتفاق على المسائل الإدارية والإجرائية، بعيداً عن الاتفاق على طبيعة البرنامج السياسي/ الكفاحي/ الاجتماعي/ الاقتصادي، الذي يتناقض بالضرورة مع بنود اتفاق أوسلو على الأرض، خاصة، ما يتعلق بـ«التنسيق الأمني» الذي زج بمئات المناضلين في المعتقلات، كما وضع على قوائم المطاردة والملاحقة الآلاف غيرهم، إن الوصول لاتفاق يؤدي لصياغة تلك البنود المتعلقة بالمهمات الراهنة والمستقبلية يتطلب نقاشاً واسعاً تشارك به كل القوى والكفاءات الوطنية من أجل الوصول لاتفاق حول خطة العمل اليومية في مواجهة العدو الصهيوني، بمؤسساته الحربية، وامتداداته الاستيطانية الاستعمارية، وعصابات مستوطنيه.

في تقديمه للخطوط العريضة للبرنامج السياسي، يؤكد الأحمد كما جاء في صحيفة «القدس» المقدسية يوم 18/11 على أن «تقدمًا تحقق في التوافق على معظم الجوانب السياسية، بل وتمت صياغة الجزء الأكبر من بنود البرنامج السياسي على الورق، خصوصًا بشأن التوافق على إقامة دولة فلسطينية مستقلة على خط الرابع من حزيران (يونيو) 1967، والتركيز على المقاومة الشعبية ونطاقها وشموليتها وكيفية تأطيرها، إضافة إلى التحرك السياسي الفلسطيني في المحافل الدولية». لكن تصريح «عزت الرشق» عضو المكتب السياسي في حماس، المنشور في الصحيفة ذاتها يقدم رؤية حركته بعناوين عريضة، تتقدم بتحليلها واستشرافها المستقبلي عما تحدث به الأحمد «نحن في حماس حريصون على نجاح هذا اللقاء ونرجو أن يكون تكريساً لمرحلة جديدة من العمل الوطني الجاد والمثمر، في ظل التحديات التي تواجه شعبنا، وفي ظل انسداد أفق التسوية ووجود حكومة صهيونية متغطرسة ليس لها هم إلا فرض الشروط على شعبنا، وفي ظل وجود إدارة أميركية منحازة بالكامل وعاجزة عن الفعل، وبالتالي نحن كشعب فلسطيني يجب أن نعتمد على أنفسنا لانتزاع حقوقنا».

إن سياسة الاعتماد على الشعب تفرض على الفريقين، الخروج من دائرة المحاصصة/ التقاسم، لفضاء العمل المشترك، وهذا ما استدركه الرشق بقوله «التوافق بين حماس وفتح على برنامج وطني لا يعني اعتباره بديلاً عن التوافق الشامل، لذا لا بد من الدعوة لاحقاً إلى لقاء وطني شامل لكل القوى والفصائل الفلسطينية للتوافق على هذا البرنامج». إن التوافق الشامل كان يتطلب عقد لقاءات وطنية تشارك بها القوى السياسية والمجتمعية في كل مناطق التواجد الفلسطيني، لتناقش الخطوط العامة للبرنامج والمهمات، تمهيداً للوصول إلى مؤتمر تشارك به الفصائل والقوى المجتمعية «هيئات، كفاءات، الحركة الشبابية» للاتفاق على البرنامج الذي يعمل على إعادة الحيوية للنضال التحرري للشعب الفلسطيني، الذي يتحقق من خلال إعادة بناء القيادة السياسية للشعب، التي تعمل على تنشيط المواجهة مع الاحتلال الصهيوني المتواصل منذ عام 1948.

إن إعادة بناء هذه القيادة يعني إعادة بناء (م.ت.ف.) عبر إشراك جميع القوى السياسية والمجتمعية الفاعلة داخل مؤسساتها، باعتبارها الإطار الجامع ليس للقيادة السياسية، بل وللشعب  الذي شكل «الميثاق» العقد السياسي والكفاحي له.