بين مصدر القانون وميدان تطبيقه.. أين هي المكتبة الحقوقية العربية؟
نجوان عيسى نجوان عيسى

بين مصدر القانون وميدان تطبيقه.. أين هي المكتبة الحقوقية العربية؟

يعد القانون بصرف النظر عن مصدره وكيفية صياغته، الناظم لعلاقات أفراد المجتمع فيما بينهم، ولعلاقتهم بالسلطة التي تُؤَسَّسُ وتمارس مهامها وفقاً للقانون، ويأتي الدور الثري لعلماء القانون وفقهائه وفلاسفته في تأسيس القانون نظرياً، وفي شرحه وتقييمه، ومن ثم وضع المقدمات النظرية لتقويمه، ومن هذه الشروحات والأبحاث تتكون المكتبة الحقوقية لأية أمة من الأمم، لتضم على رفوفها طيفاً كبيراً من المؤلفات التي تمتد من الفلسفة إلى الشرح التطبيقي لجزئيات القانون وآلياته اليومية.

تتميز العلوم الإنسانية ومنها علم القانون بأن مخابرها التطبيقية تمتد على مساحة المجتمعات الإنسانية، وبأن هذه المجتمعات بتاريخها وحاضرها ومستقبلها هي ميدان البحث والتطبيق وقياس النتائج، ويتميز علم القانون عن بقية العلوم الإنسانية بأنه لا يقتصر على تحليل الظواهر ومحاولة فهمها، وإنما يمتد ليشمل القيام بعمليات تركيب نظرية تؤدي من خلال التطبيق العملي إلى تنظيم المجتمعات وضبط حركتها بما يتوافق مع رؤية السلطة لدورها ودور أفراد المجتمع في صناعة كيان الدولة. ومن التحول في رؤية السلطة لدورها ودور أفراد المجتمع في صناعة كيان الدولة، ولدت القوانين المدنية الحديثة في الغرب، فبعد أن كانت السلطة تتمثل في الملك منفِّذ إرادة الله على الأرض، وبعد أن كانت مشروعية القوانين تؤسس على الإرادة الإلهية التي يشكل الملك «الخليفة أو السلطان في الشرق» ممرها والمُعَبِّر الأوحد عن عدالتها، أصبح المجتمع المنضبط في مؤسسات السلطة «بمعناها الواسع» مصدر السلطة والقوانين في التأسيس النظري، وعلى هذه الفكرة بنيت المكتبات الحقوقية في الغرب، ومن هذه الفكرة انطلقت آلاف الشروحات والنظريات حول القوانين المختلفة لتشكل تراثاً حقوقياً عظيماً نجح في توسيع هامش حقوق الأفراد الذين أصبحوا «مواطنين» بعد أن كانوا رعايا، ونجحت في المقابل بتأسيس مفهوم جديد للسلطة وكيفية تكوينها وقيادتها للمجتمع الإنساني.

إلا أن تحولات مماثلة أو مقابلة لم تحدث في البلاد العربية، وإنما حصل تحول مفاجئ في التأسيس النظري للسلطة والقانون، لم ترافقه تحولات اجتماعية أو اقتصادية موازية، وانتقل منشأ السلطة والقانون من العاهل إلى المجتمع على المستوى النظري فقط، وتم في أوائل وأواسط القرن الماضي نقل القوانين الغربية الحديثة لتحكم المجتمعات نفسها، التي كانت قبل أيام محكومة بالإرادة الإلهية- الملكية المطلقة، ووجد طلاب وأساتذة القانون العرب أنفسهم في مواجهة مجموعات قانونية لا يعرفون شيئاً عن أسسها النظرية، وانطلقوا في وقت مبكر في عملية شرحها وتأصيلها وإكسابها المشروعية الأكاديمية الموازية للمشروعية المؤسساتية، وإنما في غيابٍ مطلقٍ للمشروعية التاريخية، وكما جاءت المواد القانونية في المجموعات العربية ترجمة للمواد القانونية في المجموعات الغربية، جاءت شروحاتها العربية أشبه بترجمة للشروحات الغربية.

وهكذا بدأت عملية بناء المكتبة الحقوقية العربية، لتضم على رفوفها شروحاً للقوانين المدنية والدستورية والتجارية والجزائية وغيرها، على غرار نظيراتها في المكتبات الحقوقية الغربية، وبذل الباحثون وأساتذة القانون العرب جهوداً جبارة في هذا المضمار، ونجحوا في أقل من قرن في تكوين مكتبة حقوقية لا يستهان بها باللغة العربية، ولكن هل تستحق هذه المكتبة وصفها بالعربية فعلاً؟

إذا كان القانون المدني هو العمود الفقري للقوانين العربية، فإن القوانين المدنية في الدول العربية لا تعدو كونها نقلاً أميناً في أغلب موادها للقانون المدني الفرنسي، وبالتالي فإن شروحاتها لن تكون إلا نقلاً أميناً لشروحات القانون المدني الفرنسي، مما يفقدها أصالتها والتصاقها بحاجات المجتمع العربي، خاصة أن أي شرح لأية مادة قانونية لا بد أن يستهدي بموجبات إصدارها، فإذا كانت موجبات سنِّ أية مادة في القانون الفرنسي شديدة الالتصاق بواقع المجتمع الفرنسي، ورؤية السلطة هناك لكيفية تنظيم المجتمع، فإن هذه المواد تبدو عارية من أية موجبات حقيقة لسنِّها في أي مجتمع عربي. ولا يعني ذلك بأي حال أن البيئة التي طبقت فيها المواد القانونية العربية، ورؤية السلطات العربية لغاية القانون ومصدره لم تؤثر في النصوص القانونية مطلقاً، ولكن هذه التعديلات ذات المنشأ العربي، جاءت بناء على الأصل الغربي، ومنقطعة كلياً في الوقت نفسه عن أسس هذا الأصل وموجباته، وبالتالي جاءت لتزيد المشكلة تعقيداً، ولتزيد من غربة القوانين عن المجتمع الذي تطبق عليه.

يتمثل المفصل الأساسي في المشكلة في حقيقة أن واحداً من أهم أقسام أية مكتبة حقوقية يبدو فارغاً تقريباً في المكتبة الحقوقية العربية، وهو قسم فلسفة القانون الذي يعنى بأصل القانون وغايته، ولا شك أن فراغه يرجع في أحد أسبابه إلى هذه الفجوة بين ميدان تطبيق القوانين العربية ومصدرها التاريخي، ويبدو صدى هذا الفراغ في أن المستويات الأكاديمية العالية لعدد من أساتذة وعلماء القانون العرب لم تنقلهم إلى العالمية، ذلك أن الأصالة والمحلية هي الشرط الأساس للوصول إلى العالمية، ولعل الدراسات الحقوقية لفقه المعاملات الإسلامي، كانت المعبر الوحيد إلى العالمية لبعض فقهاء القانون العرب، وهذا بدوره قد يشكل مفتاحاً للانطلاق في العمل على فهم المشكلات الحقوقية في البلاد العربية.

 

آخر تعديل على الجمعة, 11 نيسان/أبريل 2014 18:08