عادات الاستهلاك… بين الماضي والحاضر
عبير حداد عبير حداد

عادات الاستهلاك… بين الماضي والحاضر

تغيّرت عادات الاستهلاك في المجتمع السوري خلال العقد الماضي، كما غيرها من العادات والتقاليد المتوارثة التي تغيرت بشكل تدريجي، خصوصاً خلال السنوات الأخيرة، حيث أصبح التغير سريع لدرجة أنه يصعب على الأسرة السورية التأقلم معه، وذلك نتيجةً للظروف التي أجبرتها على كسر هذا الشكل والنمط الاستهلاكي الذي اعتادت عليه.

ويبقى لانعكاس تغير عادات الاستهلاك أثره المباشر والملحوظ على الواقع المعيشي للمجتمع، أكثر من غيره من العادات الأخرى الموروثة، نظراً لانعكاسه المباشر على مستوى أمنه الغذائي والصحي كمحصلة.

الاستهلاك السوري ... بين الماضي والحاضر

لن نعود بعادات الاستهلاك إلى الخلف كثيراً، حيث كان ينتشر نمط العائلة المتكاتفة، والمنزل الذي يتسع للأبوين والأبناء المتزوجين، فقد كان نمط التخزين والاستهلاك مختلفاً، حيث يتوفر في كل منزل غرفة خاصة بالمواد الغذائية تسمى بـ «بيت المونة» تجد فيها ما يحلو ويطيب من المؤن تكفي لأشهر عدة، بل سنعود تحديداً لسنوات سبقت الأزمة السورية بقليل، بل وحتى خلال سنوات الأزمة الأولى، لنجد أنه على الرغم من الظروف المعيشة الصعبة التي كانت تواجهها الأسرة السورية في ذلك الحين، فلم يكن من المحال أن تحصل الأسرة على حاجاتها الغذائية الأساسية المتنوعة بالحد الأدنى، مقارنةً مع الوضع الحالي الذي بات كارثياً بكل ما للكلمة من معنى، مع التذكير أن تدني مستوى أجور العاملين في سورية هو صفة ثابتة على طول الخط خلال هذه السنوات، ولكن ما وصلنا إليه من تدني في قيمة العملة السورية بالإضافة إلى جملة أسباب أخرى كثيرة، فسح المجال لتوسيع الفجوة بين تكاليف المعيشة والقدرة الشرائية للمواطن.
فسابقاً لم يكن من المحال أن تتنوع مائدة الصباح مثلاً، لتجد عليها أنواعاً من الألبان والأجبان، زيت الزيتون مع الزعتر، الزيتون بنوعيه، البيض، المسبحة، الفلافل.. أما اليوم فقد تقلصت كل تلك العناصر لتعتبر بالنتيجة جزءاً من هذه الأساسيات مدرجة ضمن قائمة الرفاهيات الآن!
ففيما سبق فإن عادة شراء البيض بالواحدة والاثنتين لم تكن رائجة كما اليوم بعدما أصبحت البيضة بتكلفة 500 ل.س، وكذلك الأمر بالنسبة لزيت الزيتون، الذي لم يكن رفاهية مترفة إلى ذلك الحد الذي وصلنا إليه اليوم، بل كان بإمكان رب الأسرة تأمين حاجة العائلة لأشهر عدة منه، أما اليوم فبات شراء زيت الزيتون يقتصر على الحاجة الأسبوعية بالكيلو والكيلوين، بل وأحياناً بالأوقية!
يتحدث سمير لقاسيون عن عادة تعتبر دخيلة على عملية شرائه لزيت الزيتون «لم اعتد الاشتراك في شراء تنكة الزيت مع أحد، أما اليوم فأنا اتشارك مع أخوَيّ للقيام بهذه المهمة المجهدة بعدما أصبح سعرها يقارب 300ألف ل.س، أي ما يزيد عن 3 أضعاف أجري كعامل في الدولة».
الزيتون باتت تتسوقه الأسرة جاهزاً وبالأوقية، بعدما أصبحت قدرتها الشرائية ضعيفة لدرجة أن تموين الزيتون أدرج ضمن قائمة المنسيات، الألبان والأجبان كذلك الأمر تم الاستغناء عنها بشكل تدريجي، حتى غابت عن موائد الطعام لدى الغالبية العظمى من المواطنين.

انتهاء المونة والتموّن

تتحدث فرح، فتاة ذات الـ 28 عاماً عما علق بذاكرتها من عادات كانت تمارسها عائلتها في تخزين المواد التموينية، تقول: «أذكر أنه كان لدينا خزانتان في المطبخ، إحداها خاصة بالمواد التموينية من سكر ورز وبرغل وعدس وما شابهها من مواد أخرى جافة... وكانت تخزن كل منها داخل قدر زجاجي أو بلاستيكي كبير، ربما كان يسمى بـ «دبجانة»، وخزانة أخرى لمواد التنظيف والبرش والصابون تتبضعها أمي من محال الجملة بدل العلبة ثلاثة تختزنها لأشهر مقبلة، كنوع من توفير المال والجهد، بالإضافة إلى ما يتم تخزينه من موسم مونة لآخر من غذائيات في سقيفة المنزل من مطربانات الزيتون وتنكات زيت الزيتون والنباتي والسمن الحيواني والنباتي، ومطربانات الجبن واللبن المدعبل والمكدوس والمربيات وغيرها.. أما اليوم فنشتري كل مواد التموين والغذائيات والتنظيف حسب الحاجة اليومية، والقدرة المالية التي هي الأهم!».

الخضار والفواكه التحقت باللحوم...

ما يؤلم اليوم، تغير عادات التبضع حتى بالخضار والفواكه، التي كانت سائدة سابقاً لدى شريحة لا بأس بها، كعادة شراء الخضار والفواكه من سوق الهال بالصناديق لتتقاسمها عائلتان سوياً على مدار الأسبوع كنوع من توفير الوقت والجهد، أو شراء الحاجيات عبر أسواق الخضار المتوفرة في الحي لأيام مقبلة، ولكن تواصل ارتفاع أسعار الخضار والفواكه لهذه الدرجة الكارثية، غيّر شكل ونمط التبضع خلال السنوات السابقة، ليقتصر في يومنا هذا على الحاجة اليومية، وبتقشف شديد، حيث أصبحت عادة شراء الخضار بالحبة والحبتين رائجة لشريحة واسعة من الغالبية المفقرة، كما أن هؤلاء ذاتهم باتوا يتصيدون فرصة الحصول على بعض الخضار التي يقوم بائعها بفرزها جانباً لسوء نوعيتها، كي يحصلوا عليها بسعر أدنى!
آيات ربة منزل في إحدى حارات الفقر التي يقطنها معدمو الدخل، تتحدث عن مشاهد البؤس التي تصادفها عند بائع الخضار فتقول «استوقفني مشهد بائس اثناء تواجدي لدى أحد محال الخضار، لامرأة تستجدي البائع إعطاءها تفاحة واحدة فقط، فيجيبها البائع أن هذه التفاحة الكبيرة والجيدة تثمن بـ 500 ليرة سورية بالحد الأدنى، لكن هذا الشكل من البيع سيشكل له خسارة بالنتيجة، فهو يبيع أول بأول، كي لا يبقى عنده التالف من البضاعة».
أما عن اللحوم بأنواعها فلن نطيل الحديث، فقد باتت اليوم حلماً ليس للمفقرين فحسب، بل أصطف إلى جانبهم بعض ميسوري الحال بعدما جرى فرز السوريين اقتصادياً ومعيشياً.
كما أصبح موسم المونة عادة نادرة الوجود، جرت تصفيتها تدريجياً خلال السنوات السابقة، أولاً بسبب انقطاع الكهرباء المستمر لمن لا يزال لديه قدرة على التموين، وتالياً بسبب ارتفاع أسعار السلع الجنوني مما حد من إمكانية التموين حتى لميسوري الحال.
إن الحديث أعلاه عن تغير عادات الاستهلاك، لا يعني أن السوريين كانوا يعيشون درجة عالية من الرفاه، بل كنا نجد فيما سبق حالات عديدة تعاني الفقر المدقع، وتتبع ذات طريقة الاستهلاك السائدة اليوم، ولكن الفاقع في يومنا هذا أنها أصبحت الطريقة الرائجة والمعممة، تعتمد على شراء الضروريات بالحد الأدنى والتي تسمح للفرد بالبقاء على قيد الحياة، بعيداً حتى عن منظور فائدتها وتنوعها الغذائي.

أسباب الانحدار المعيشي

يُعد دخل الفرد المحدد الأساسي لقدرته الشرائية، الذي على أساسه تتحدد عاداته الاستهلاكية، ويعاني المواطن السوري من تدني مستوى الأجور منذ عقود سبقت الأزمة، نتيجة الخلل في معادلة توزيع الدخل الوطني بين الأجور والأرباح، وعدم ربط الأجر بتغير الأسعار وفق الحد الأدنى لمستوى المعيشة، الأمر الذي يفسر اتباع الأسرة نمط الترشيد والتقنين الاستهلاكي الاضطراري، وخلال سني الأزمة أصبح الفرق شاسعاً بين مستوى الأجور وارتفاع الأسعار، خصوصاً خلال السنوات الأخيرة، مما عمّق انعدام القدرة الشرائية للغالبية المفقرة من الموطنين، حتى بات ما يقارب 12 مليون شخص يعاني من انعدام الأمن الغذائي، و1,9 مهددون بالتعرض،والمنحني التالي يوضح الفجوة بين مستوى الأجور وتكاليف المعيشة بين 2010-2022:

untitled-1
تمثل هذه الأرقام واقع مأساة العائلة السورية التي تعيشها بشكل يومي، ويعود هذا كله للسياسات الاقتصادية الظالمة التي تعمل وفقها الحكومات المتعاقبة، ومنها سياسة تخفيض الدعم والسير نحو إنهائه، دونما تحسين لواقع الأجور، مما عمق وسيعمق المأساة الكارثية السورية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1065
آخر تعديل على الأربعاء, 13 نيسان/أبريل 2022 12:23