كيف أصبحت شيوعياً

حصين البحر درة متألقة من درر عقد ساحلنا الرائع، وهي المحطة التي فتحت مجالها، واحتضنت زاوية هذا العدد.

ضيفنا اليوم الرفيق القديم أبو محمود محمد علي..

رفيقنا المحترم أهلاً بك ضيفاً عزيزاً على صحيفتنا.. نود أن تحدثنا كيف أصبحت شيوعياً؟

«أعتقد أنني كسائر الرفاق القدامى شدنا إلى الحزب الشعور الوطني والطبقي كوننا أبناء شعب كادح عريق بوطنيته وحبه لأرضه، وأنا من مواليد بلدة حصين البحر التابعة لطرطوس عام 1932 من بيئة فقيرة جداً، يعمل معظم أهلها عمالاً زراعيين بالأجرة عند عائلة إقطاعية أمعنت في استغلالهم وظلمهم، فكان من الطبيعي أن أشعر بالظلم منذ نعومة أظفاري وأن أكره الإقطاع، ولذلك تكوّن لدي استعداد لتقبل الفكر الثوري، وأول من أنار دربي لهذه القناعة ورسخها معرفتي بأشخاص أشداء.. برجال شيوعيين بكل معنى الكلمة في مقدمتهم الرفاق صبحي اسحق وحنا داهود وطنوس سلوم الذين وجدت فيهم ما أحلم به من رجولة وكره ومقاومة للظلم والظالمين، وكما قلت كان العمال الزراعيون من المتن يعملون أجراء لدى عائلة عرنوق الإقطاعية التي كانت حكومة بحد ذاتها، فإن طالب العمال برفع أجورهم يتم طردهم واستبدالهم بغيرهم من أماكن أخرى، وأذكر أن الرفاق الشيوعيين كانوا يقفون صباحاً في الطريق الذي يسلكه العمال الجدد الوافدون إلى العمل، ويقولون لهم: نحن كنا نعمل بثلاث ليرات يومياً وهي غير كافية لقاء جهدنا، فطالبنا برفعها إلى خمس ليرات، فطردونا من العمل، وأنتم إذا شغلوكم بخمس ليرات فاشتغلوا، وإن كانت الأجرة أقل فلا تقبلوا لأن أجركم يجب أن يكون أكثر من ذلك.

لقد أعجبت بالشيوعيين جداً، فقدمت طلب انتساب للحزب، وقبل طلبي، وكلفوني بتوزيع مناشير ضد حكم حسني الزعيم الديكتاتوري الذي كان يعتقل الشيوعيين والوطنيين. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم ارتبطت حياتي بالنضال وبالفكر الشيوعي الذي لا يوجد بديل عنه حسب قناعتي، ومن ذكريات تلك المرحلة مشاركتي بمظاهرة في بانياس ضد مد خط التابلاين، وأتذكر أن الرفاق كتبوا في منشورهم يوم ذاك أن مردود الأراضي الزراعية التي صودرت لمد هذا الخط أكثر من مردود خط التابلاين الذي يخدم المستعمرين ولا يخدم سورية. وقد اعتقلت في تلك المظاهرة .

كان في منطقتنا مدرستان واحدة في السودا واسمها الجيل الجديد للقوميين السوريين، والثانية باسم المدرسة الأرثوذكسية للشيوعيين يدرس فيها مجاناً كل من لا يستطيع أهله تعليمه في المدارس الأخرى وكذلك الطلاب الذين فصلوا من مدارسهم كونهم شيوعيين.كما كان هناك محامون شيوعيون يدافعون عن الفقراء مجاناً كالمحامي عبد الكريم طيارة في طرطوس، ودانيال نعمة في المشتى.

ومن الذكريات القديمة التي تثبت أن للمرأة في البيت الشيوعي دورها الهام سواء أكانت أما أو زوجة أو أختاً أو ابنة خلال العمل السري، ومثال على ذلك دور والدتي التي كانت تذهب من حصين البحر إلى (وطى أراضي الروضة) كي تجلب الحطب على رأسها، وكان الرفيق حنا الزغريني يجهز لها المناشير لتنقلها ضمن حزمة الحطب إلى بيتنا، ومن الحوادث التي لاتنسى يوم كلفت بأخذ المطبوعات (البيانات) من امرأة لبنانية اسمها أم علي توصل المطبوعات إلى رفيقنا أبي مهدي الذي يملك مطعماً صغيراً قرب كراج طرابلس، وعندما نزلت أم علي من السيارة شعرت أنها تحت مراقبة عناصر من المكتب الثاني، وكنت أتابعها بالنظر من (الناعورة)، وهي مزرعة ليمون قريبة من الكراج، فلم تدخل إلى المطعم، بل دخلت إلى دورة مياه الكراج، وهي محجبة، ومن نافذة الدورة المطلة على المزرعة ألقت المطبوعات بعد أن لفتها بالمانطو، فسارعت إلى أخذها وبقيت أتابع تحركها بعد أن خرجت بكامل أناقتها بحيث لم تعرفها دورية المكتب الثاني، واتجهت إلى إحدى السيارات وركبتها عائدة إلى لبنان.

أما قصتي مع أم محمود شريكتي في النضال والحياة فتعود إلى يوم تعرفت عليها وخطبتها، وكانت العادة في تلك الأيام أن اسم الفتاة التي ستتزوج يعلق في لوحة الإعلان على باب السرايا لمدة أسبوع، كي يتاح المجال أمام أي واحد من أقاربها أو غيرهم كان قد (خطبها) من أبيها ليحتج على زواجها من غيره، فإن مر أسبوع ولم يعترض أحد يتم الزواج. ولما مضى أسبوع أم محمود وقبل يوم من العرس اعتقلت ودخلت السجن، وفي اليوم الثاني قامت الشرطة (بكبسة) على بيتنا فاستغرب رئيس المخفر الذي كان يعرف أمي وأختي وجود امرأة ثالثة فسأل عنها فقالت أمي إنها زوجة ابني، فقال لها ألا تعرفين أن عريسك شيوعي، فأجابت: لو لم يكن شيوعيا لما قبلت به.

أنا أعتز بأنني من شيوعيي هذه المحافظة الذين امتد نضالهم حتى المهجر، والكل يعرف قصة تهريب الشيوعيين الفنزويليين المعتقلين في سجن (كاراكاس) بمساعدة الرفيق الراحل نعمة شاهين. إنني شيوعي بالفطرة منذ طفولتي، وبيتي بيت شيوعي معروف للقاصي وللداني وكان مفتوحاً دائما لكل الاجتماعات الموسعة وكل المؤتمرات الحزبية .

ومن (الطريف) ما حدث معي منذ أيام فقد (زارني) أحد رجال الأمن وسألني: من أي فصيل أنت.. فقلت له أنا شيوعي.. إن مثل هذه الأسئلة أصبحت تمس كرامتنا، ولا تشرفنا إطلاقاً، فنحن لم نناضل ولم ندخل السجون كي ينتحل أشخاص اسم الحزب. إنني سأبقى شيوعياً وأموت شيوعياً، ويؤلمني أشد الألم حالة التشتت والانقسامات، لكنني لم أفقد الأمل والثقة بوحدة الحزب، وأمنيتي الوحيدة أن أشاهد بأم عيني حزباً شيوعياً حقيقياً موحداً حتى إذا فارقتهم أشعر أن تعبي وتعب الآلاف من الرفاق لم يذهب سدى، وعندها أكون قد أمّنت على عائلتي وحزبي.