كيف أصبحت شيوعيا؟

قبل يوم من إجراء هذا اللقاء مع ضيفنا الرفيق يوسف داود البني  ،كنت أسجل انطباعات أولية وجملة من عبارات كثيرة لاقت صدى طيبا في نفسي بعد قراءتي كتابا بعنوان (آراء ومواقف في الفكر والسياسة والاجتماع) للشيوعي القديم المعروف الرفيق الدكتور نبيه رشيدات ،ومنها قوله: «باعتقادي أن وجود الحزب الشيوعي هو مطلب ضروري من مطالب النضال الوطني والاجتماعي، بل هو الآن أشد ضرورة من السابق».وقوله: «وهكذا يمكنني القول أن الدافع الوطني هو الأساس في انتمائي للحزب الشيوعي  إلى جانب عاملين آخرين هما ما كنت أحمله من شعور عميق رافض للظلم مهما كان مصدره، ورفضي للفوارق الطبقية الصارخة، باعتبارها أمراً ظالماً، والعامل الآخر هو تأثري بأفكار أساتذتي التقدميين الذين كانوا يحللون لنا حوادث التاريخ من منظور علمي». وكذلك قوله: «إن تقييم أي مناضل أو مفكر لا يكون بمقدار اتفاقك بالرأي معه أو مخالفتك إياه، ولكن بمقدار مصداقيته هو إزاء ما يعتقده أو يعلنه...مقدار انطباق القول مع العمل والسلوك»

هذه الأقوال  ترددت في ذهني وأنا أبدأ لقائي وحديثي  مع  ضيف العدد:

الرفيق المحترم  يوسف، أبو أسامة، نرحب بك ونسألك أن تحدثنا كيف أصبحت شيوعيا؟.

  «سنواتُ  جفافٍ عجاف، أكلت الأخضر واليابس، وعانت العائلات السورية على مساحة الوطن حالات الفقر والعوز، وبدأت  الهجرات الجماعية من الريف القاحل بحثا عن لقمة العيش في غياهب المدن الكبرى، في هكذا ظروف ولدت في الأول من تشرين الثاني عام 1960 في أسرة فقيرة تعيش في قرية تسمى"متان." ( نسبة إلى اسم القائد الروماني ماتان ) وهي تابعة لناحية صلخد في محافظة السويداء، وكان قد ضربها المحل والجفاف، لذلك رحل بنا والدي بعد ستة أشهر من ولادتي إلى أطراف العاصمة دمشق، حيث استقرت بنا الحال لسنوات، وكان أبي ينتقل من عمل إلى آخر ومن فقر إلى أكثر، وكنا ثلاثة صبيان وسبع بنات، وكنت أوسطهم تماماً، وكان لا بد من المساعدة بشكل ما في تحصيل قوت الأسرة، فبدأت العمل منذ نعومة أظفاري، ومنذ الصف الأول في المدرسة، عملت في محل خاص للحلويات إلى جانب دراستي، وعلى مدى سنوات متواصلة، ومع بداية نمو الوعي بدأت أفكر بالأوضاع المعيشية لعموم الأسر التي تحيط بنا وكيف الوصول إلى حل لمعاناتهم، يخلصهم من الفقر والقلّة. لم أكن أفكر بنفسي فقط، وذلك نتيجة كوني اتصفت منذ صغري بالإيثار والتزام الفضيلة وحب الآخرين، والمسارعة لتقديم المساعدة للمحتاجين، وهذا ليس ادعاء بل حقيقة يصفني بها من عرفني.

وأتيح لي مصادفة آنذاك أن ألتقي رفاقا في الحزب الشيوعي السوري، ومن حين لآخر، شرحوا لي عن القوانين الاقتصادية والسياسية التي تتحكم بالمجتمعات، والفرق بين الرأسمالية و الاشتراكية، وأين يكمن الحل لكل مشكلات الفقراء، وأخذت أقرأ عن الديالكتيك وماديته القائمة على الجدل وتصارع الأضداد، وأيقنت بالحتمية التاريخية في مسيرة تطور المجتمعات. ،فاتجهت نحو الحزب الشيوعي، وانضممت إلى صفوفه عام 1976 وأنا في السادسة عشرة من عمري، وأمضيت سنوات طويلة في العمل الحزبي والنشاط السياسي والجماهيري بين نجاح مرة وإخفاق مرة، وللأسف عايشت قسما من شرذمة الحزب وانشقاقاته، فكرهت العمل السياسي، وحقدت على من استأثر بالمكاسب الشخصية والمناصب المغرية واستسهل (العمل من فوق)، مبعدا الحزب عن مبادئه وأهدافه وعن جماهيره الشعبية، وتخلى عن مطالب الفقراء والمستضعفين وحاجات العمال والفلاحين، فابتعدت لفترة عن التنظيم، إلى أن كان لي الشرف وشهدت مرحلة التقاء عدد كبير من الرفاق الشيوعيين من مختلف التنظيمات، ومن التاركين للتنظيم، وهم يصوغون ميثاق شرف الشيوعيين، الذي حاكى تطلعاتي وأمنياتي، فعدت للمسيرة الحزبية  تحت هذه الراية  المشرفة، وأنا الآن في صفوف اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين التي تعمل مع الرفاق من كل التنظيمات ومن خارجها، للوصول إلى حزبٍ واحدٍ قوي متماسك، يستعيد جماهيره وحامله الاجتماعي، عن طريق العودة لممارسة مهامه الاجتماعية والسياسية في النضال الحقيقي من أجل مصالح الكادحين والفقراء، وهنا لا بد لي من أن أناشد كل الرفاق، على اختلاف مواقعهم التنظيمية، لتوحيد صفوفهم وجهودهم، للتخلص من حالة الشرذمة والانشقاقات، والعمل يداً واحدةً في مواجهة كل التحديات والتهديدات التي تجابه وطننا الغالي، ولنستعد لمقاومة أي تدخل امبريالي خارجي يهدد أمن و سلامة الوطن، ولمقاومة ركائزه الداخلية المتمثلة بالليبرالية الجديدة التي تحاول تدمير اقتصاد الوطن من الداخل، ولمقاومة كل الفاسدين والمفسدين الذين ينهبون ثروات الوطن ولقمة جماهير الشعب. وفي ختام حديثي أرى من واجب الوفاء أن أعبر عن احترامي وتقديري لكل من بنى لبنة في صرح الحزب  من الرفاق القدامى. من رحل منهم، ومن مازال على قيد الحياة، فهم مشاعل مضيئة تنير طريقنا، وهم كثر، ومنهم الرفيق أبو محمد معروف أبو دهن، والرفيق تيسير الشاهين، الذي كان له الفضل الأول والكبير في تثقيفي أيام الطفولة، وإحياء الروح الوطنية التي ورثناها عن الآباء والأجداد، والتي كانت تحتاج فقط نفخة خفيفة كي يُنفض عنها الرماد، فتعود جذوتها إلى التوقد من جديد، مستذكرا قول الشاعر:

يا رفاقي، لن نطلّ وسط أجفان الدجى

كالمرايا ساطعين

إن لم نبطّن صفحة العينين فُلاً ولهيبا