نزار عادلة نزار عادلة

تقارير رسمية في الأدراج، ونقل وعقوبات بقرارات شخصية.. الفساد والتلاعب يعيثان في مؤسسة مياه حمص



في الوقت الذي تبدو فيه الجهات الوصائية عاجزة عن وقف التهرب الضريبي، وهو بمئات الملايين، وتقف حقيقةً، عاجزة عن وقف الهدر الحكومي، وعاجزة أمام الخلل الإداري، كما أنها تبدو مشلولة أمام الفساد الذي بات جزءاً أساسياً من مفردات أحاديث الناس اليومية، في غياب المحاسبة والآليات والنواظم، فإن المواطن هو الذي يتحمل هذه الفاتورة، لأنه الحلقة الأضعف، لذلك فإن كل الإجراءات التي تتخذها الجهات الوصائية لتحصيل فاتورة الفساد تكون على حساب ذوي الدخول المحدودة!!

فساد علني في جو حميمي
تميزت ظاهرة الفساد في مؤسسة المياه بحمص بالعلن والوضوح والبساطة، وهنا يصعب التمييز بين المدير والجابي والمفتش، لأن الجميع منهمك في وليمة النهب والتزوير والسرقة، ومن يمنعه إباؤه وكرامته من المشاركة في هذه الوليمة فهناك أكثر من وسيلة لمعاقبته والقصاص منه، ونذكر هنا بعض ملفات الفساد في هذه المؤسسة، فقبل سنوات قال لي أحد الزملاء «تم تعيين قريبي مديراً لمؤسسة المياه في إحدى المدن، وهذا يعني أنه قَبَر الفقر من خلال الملايين التي يحصل عليها». ولم أفكر حينها بجدية ما قاله، ولم أكن أعتقد أصلاً أن الفساد قد وصل إلى هناك، إلى مؤسسة خدمية رصيدها الماء، ولكن عندما اطلعت على ما يجري في مؤسسة مياه حمص توضّحت الصورة.

شريك المياه رابح دائماً

رغم التوجيهات الدائمة التي تبثها وسائل الإعلام المختلفة، والتي تؤكد على ضرورة الحرص على كل قطرة مياه، فإن توجهات إدارة المؤسسة تمر مرور الكرام على أرقام الهدر وكأن شيئاً لا يعنيها بشكل مباشر، ويؤكد هذا الاستهتار انقضاء وقت طويل على التقرير الرقابي رقم 1816 تاريخ 12/12/2005 الصفحة /8/ حيث أشار إلى أن نسبة الهدر في مدينة حمص قد بلغت 54%، حسب سجلات المؤسسة بعد حساب الكميات المنتجة من مصادرها والكميات المباعة، أما في ريف حمص فبلغت نسبة الهدر 60%، فإذا كانت إيرادات المؤسسة سنوياً لا تتجاوز 500 مليون ل.س، فإن قيمة الهدر تفوق هذا المبلغ، وإذا علمنا أن سعر المتر المكعب من المياه في الاستهلاك التجاري /22/ ل.س، وسعر المنزلي لا يتجاوز وسطياً /2.5/ ل.س، فهذا يعني أن الهدر يتجاوز المليار ليرة سورية سنوياً.
إضافة إلى ذلك جاء محضر اللجنة المشكًّلة من جهاز التفتيش بالأمر الإداري رقم 108 تاريخ 12/3/2006 في مدينة تدمر، وكانت النتائج مرعبة والفضائح كبيرة، وقد نُظم محضرٌ بذلك تحت رقم /4765/ تاريخ 17/5/2006 جاء فيه أن معظم الفنادق والمزارع ومنشآت المنطقة الصناعية والمحال التجارية والمكاتب وغيرها لا تدفع قيمة المياه. وجاء ذكر فندق خمس نجوم لصاحبة «خ.س» يستجر المياه عبر أنبوب قطره 4 إنشات، ومع ذلك لم يدفع خلال عامين سوى 220 ل.س، ورفع الموضوع إلى إدارة جهاز التفتيش بحمص بالتقرير الرقابي رقم /57/ تاريخ 31/5/2006، مع اقتراح أن يشمل المسح كافة المشتركين في مدينة حمص والوحدات التابعة لها، ووضع حد لهذه المخالفات وتحديد المسؤولية. ولكن التقرير حُفظ في الأدراج ونام هناك طويلاً، وتم التستر على السرقة والتخريب، والمبالغ التي تُهدَر بسبب ذلك تبلغ المليارات على مدى سنوات سابقة ولاحقة. فلماذا حفظ هذا الملف؟ ولماذا أغلق التحقيق بالموضوع؟
مقابض ترصيص العدادات، التي هي بمثابة الأختام الرسمية، والتي يجب أن تكون بعهدة أشخاص من ذوي الثقة والكفاءة في المؤسسة، كانت طيلة سنوات عديدة بعهدة المتعهدين المتعاقدين مع المؤسسة من القطاع الخاص، وهنا نتساءل: من يستطيع حصر التلاعب الذي مارسه هؤلاء المتعهدون طيلة سنوات؟ وما مبرر وجود المؤسسة كاملةً إذا كان المتعهد هو المسؤول عن المشترك؟!
 
الجباية وجه آخر للفساد

العامل «م.س» كُلِّف بالجباية في تدمر، وبعد أشهر قليلة من تكليفه انتقل وأسرته فسكن في مدينة حمص حي الوعر، وفتح مكتباً تجارياً في شارع ابن خلدون، وبدأ يمارس التجارة بالشراكة مع أحد المسؤولين في المؤسسة وبالاتفاق مع رئيس الوحدة بتدمر الذي كان يقوم بالجباية. وبدأ يمول تجارته بالأموال التي تتم جبايتها. ولكن ذلك لم يعد يكفي طمعه فاتفق مع إدارة المؤسسة على القيام بعملية تزوير كبيرة، وقام بتزوير أكثر من 1500 فاتورة وإجراء تعديلات عليها دون علم المشتركين خلال أربع سنوات. وكان يتم تزوير الكميات ومن ثم القيم، ويقوم بقبض مبالغ هذه الفواتير ويوزع الحصص على المتواطئين معه، ولم يكتف بأموال الجباية وقيمه الفواتير المزورة ورواتبه وتعويضاته التي تُصرف له مع أنه ليس على راس عمله طيلة أربع سنوات ونصف، بل توسع نشاطه وتوطدت علاقته مع إدارة المؤسسة، فأصبح من أكبر المتعهدين في المؤسسة باسم زوجته. ولكن أخيراً كُشِف أمره من التفتيش.
 
واستمر التواطؤ والفساد

بعد كشف الموضوع من المفتش المكلَّف بالتحقيق بالموضوع، وأثناء فترة التحقيقات التي بدأت عام 2005 بدأ الجابي يتهرب من المثول أمام لجنة التحقيق بحجج وذرائع مختلفة. وذلك ليتمكن من إرضاء المفتشين وإسكاتهم، وبعد فشله وفشل الإدارة بذلك توارى عن الأنظار، ومازالت الإدارة تتستر عليه وتصرف رواتبه.
بعد ذلك تم تشكيل لجنة من قبل جهاز التفتيش بالأمر الإداري رقم /297/، فمنعت من العمل في المؤسسة بأمر الإدارة، وشُكِّلت لجنة من المدراء بالمؤسسة بالأمر الإداري رقم /427/ ومنعت من الجرد على الموظف الجابي التاجر المتعهد.
فشكلت لجنة أخرى وتم الجرد من التفتيش بحضور أعضاء اللجنتين، بغياب الموظف المذكور وحضور شقيقه وممثل التنظيم النقابي، وتبين أن لديه نقصاً يساوي ثلاثة ملايين ومائتين وأربعة وتسعين ألف ليرة سورية، ونظم محضر جرد بذلك ورفع للإدارة، وتم حفظه في الأدراج أيضاً، ورُفِعت مذكرة رقابية لإدارة جهاز التفتيش برقم 12 تاريخ 6/2/2006 تتضمن اقتراح إحالته للقضاء، والحجز على أمواله المنقولة وغير المنقولة، ولكن إدارة الجهاز حفظت ذلك لديها وامتنعت عن ملاحقته قضائياً.
وخلال فترة التحقيقات حضر الجابي وصرَّح للمفتش بأنه دفع مبلغ /50000/ ل.س رشوة دفعة أولى لمفتش من جهاز التفتيش يدعى «ع.ج» عن طريق وسيط، وأن الوسيط يطالب بمبلغ /25000/ ل.س على أن يدفع ما يطلب منه لاحقاً، ودوَّن بخط يده إفادة بذلك، أما شريكه المدعو «ح.ل» فقد أفاد خطياً أنه سيتم دفع مبلغ /200.000/ ل.س لكي يتم وقف التحقيق.
 
من يدفع الثمن؟

بعد انتهاء التحقيقات تم حفظها مع وثائقها كاملة لدى إدارة جهاز التفتيش بحمص، وتقديراً لجهود المفتش الذي كشف التزوير والفساد تم كف يده وإبعاده عن عمله كمفتش مالي، وتم تكليف المفتش«ع.ج» الذي اتُّهِم بقبض مبلغ الرشوة بإعادة التحقيق.
كما شملت التحقيقات أيضاً الإشكالات الحاصلة في تعيين العمال في المؤسسة وما تنطوي عليه من تلاعب وتزوير في إجراءات الترشيح والاختبار مقابل رشاوى يتقاضاها المدير الإداري، حيث تم ترشيح بعض العمال على أنهم عجزة، وعند تعيينهم يتبين أن الترشيح تم مقابل رشاوى. وقد أوقِف التحقيق من قبل مدير الجهاز بهذا الموضوع وحفظ لديه بالرغم من تنظيم أكثر من مذكرة رقابية منها المذكرة رقم /43/ تاريخ 9/5/2007 التي تبين كل الإشكالات والمخالفات الحاصلة، وتؤكد على ضرورة استكمال التحقيق وتحديد المسؤولية، وكل ذلك تم حفظه في الأدراج، ولم يلق أذناً صاغية.
أما ملفات التلاعب والنقص في عدادات المياه بالمؤسسة، وإصلاح الآليات والمضخات، واستهلاك المحروقات المفصلة في التقرير الرقابي رقم /1816/ فقد بقيت دون أية مساءلة أو معالجة، فمثلاً كان هناك صاحب عداد جماعي اسمه «خ.ع.خ» ولديه أكثر من مائة مشترك، ويقوم بجباية قيمة الفواتير من المشتركين ولم يدفع للمؤسسة طيلة عشر سنوات.
وتم تنظيم مذكرة رقابية لإجراء التحقيق وتحديد المسؤولية وحفظ الموضوع ولم تجر المساءلة.

 مكافأة محاربي الفساد في سورية

هذا نموذج بسيط من ممارسات الفساد في مؤسسة المياه بحمص، وبدلاً من معاقبة الفاسدين ومكافأة من كشف هذه الممارسات، تم حفظ التقارير والإدانات، واتُّخِذت أسوأ الإجراءات بحق المفتش وقوبِل بالويل والثبور، وتعرض لسلسلة من العقوبات والإجراءات المقصودة، وكأنه هو المجرم والسارق والمخرب، فقد أبعد من قبل مدير فرع جهاز التفتيش بحمص وتم كف يده عن القيام بأي عمل رقابي، وبقي دون أي عمل، بموجب الكتاب رقم /12/ تاريخ 17/5/2006 تحت عبارة «توجيه من فوق». كما رفع مدير فرع الجهاز بحمص ومدير مؤسسة المياه شكاوى بحقه إلى رئاسة الجهاز بدمشق.
أحيل في 7/2/2007 إلى لجنة التحقيق المسلكية برئاسة الجهاز خلافاً لأحكام قانون الجهاز، دون بيان التهمة أو المخالفة أو الجرم الذي ارتكبه، ويؤكد ذلك تقرير اللجنة تاريخ 2/9/2007، وبعد استجوابه بينت اللجنة عدم صحة الشكاوى المقدمة بحقه، وثبتت براءته وكان من المفروض إعادة الاعتبار الوظيفي له وإنصافه، ولكن ما الذي حصل؟
بتاريخ 29/10/2007 اقترح المجلس الأعلى للرقابة المالية نقله إلى خارج الجهاز، وبما أنه لا يوجد مخالفة يستند إليها في اقتراحه برر ذلك بعبارة «توجيه من فوق»، وأصدرت إدارة فرع الجهاز بحمص تقييمات العاملين، ووضعت له درجة وسط /50%/ للترفيع، وحرمته من جزء من راتبه طوال حياته، خلافاً لأحكام المرسوم /322/ الناظم لتقييم العاملين، وكان تبرير ذلك أيضاً «توجيه من فوق».
في 6/1/2008 صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم /56/ المؤشَّر من الجهاز المركزي بالتاريخ نفسه والقاضي بنقله إلى الشركة العامة للفوسفات والمناجم، وفي 7/1 تم إبلاغ رئاسة الجهاز بالقرار، وفي 8/1 تم إبلاغ فرع حمص، وفي 9/1 تم إبلاغ المفتش وصدرت مذكرة انفكاك بحقه، وكل ذلك قبل إجراء الاستلام والتسليم للعهدة التي بحوزته.
راجع المفتش شركة الفوسفات في 14/1 فوجد قرار نقله إلى مناجم خنيفيس الذي اعتبره قرار نفي، فسأل عن سبب إبعاده للمناجم فقيل له «توجيه من فوق».
مافيا الفساد لم تكتف بذلك بل تم نقل زوجته أيضاً في 29/5/2008 من المصرف الصناعي بحمص إلى المصرف الصناعي بدمشق.
في 16/9/2008 تعرضت طفلة المفتش وعمرها /8/ سنوات لمحاولة اختطاف وقتل، وسُجلت الجريمة ضد مجهول والتحقيق الجنائي أوقِف عندما طلب أن يشمل التحقيق كل من يشك بتورطهم.
تقدم بالشكاوى لمعظم الجهات الوصائية والحزبية والأمنية وحفظت هذه الشكاوى ويأتيه الجواب «أغسل يديك من الموضوع».
تقدم بشكوى إلى مسؤولين في أعلى المستويات، وأحيلت شكواه إلى الشعبة السياسية وتم التحقيق في كل ما اتُّخِذ بحقه من إجراءات، دون التحقيق بملفات الفساد، وخلصت نتائج التحقيق إلى اقتراح إعادته إلى عمله هو وزوجته، وصدر كتاب بذلك من رئاسة الشعبة إلى رئاسة مجلس الوزراء تحت رقم /2988/ تاريخ 21/12/2008، ولكن الكتاب حفظ في الأدراج ولم ينفذ مضمونه.
هل يدفع الشرفاء ثمن محاربة الفساد؟! هل يُسمح بأن تجري الممارسات المافياوية ضد أفراد أسرته على مذبح الفساد المدعوم؟ وإلى متى سيبقى الفاسدون يستقوون بالمناصب أو بأصحاب المناصب؟ الفساد مستمر، والوثائق التي تدينه كثيرة بين أيدينا، وتقارير رقابية مصدقة، فهل نسلم أمرنا ونقول «حسبنا الله ونعم الوكيل»؟!!