من الذاكرة : أوجاع الولادة

من الذاكرة : أوجاع الولادة

أعادني قول أحفظه لمحمود أمين العالم «إن رجل الشارع لن يكون هذا الحطام الآدمي الذي خلفته المجتمعات الاستغلالية، وإنما سيكون ابن العلم والثورة والحضارة والرخاء»، أعادني إلى عام 1948 حين كنت طالباً في الصف الرابع، وتذكرت حادثة بقيت «عالقة» بخيالي، فمع انتهاء الدوام المدرسي انطلقنا مسرعين نحو بيوتنا، وفي الطريق

أبصرت خالي سعيد وهو «يتشاجر» مع البقال، وصوته يدوي «أنت غشاش وكذاب»، وطبيعي أن يصيبني الذعر مما سيفضي إليه الشجار، وبخاصة أنني أرى في خالي مثال الإنسان الطيب بحنانه ومودته وحبه، ولحسن الحظ أن الأمر انفض بتدخل أبناء الحارة ودون «خسائر»، فأمسكت بيده وسرت إلى جانبه نحو البيت، وقد حاول جاهداً أن يهدئ من روعي ويريح أعصابي قائلاً: «بسيطة يا خالو.. ما في شي.. بس لازم يتحاسب على فعلته»، فسألته: وماذا فعل؟! أجاب: «لقد سجل في دفتره أنني استدنت منه ربع كيلو سكر، وهذا لم يحصل، وليس صحيحاً بتاتاً، إنه يغش ويكذب، والكذب والغش يا خالي أبشع شيء في الحياة!»، ومن وقتها أصبحت أكره بشدة الغش والغشاشين والكذب والكذابين.
وتكر الأيام والشهور والسنوات، وأتعرف إلى رجل وقور سكن حديثاً قريباً من بيتنا، فوجدت في هذا الجار كنزاً ثميناً من المعارف والمعلومات والخبرة والتجارب، وفي يوم سألته: ما أبشع وأسوأ الصفات؟ فأجاب: «الخيانة.. يا بني». وسرد على مسمعي قصة «أبو رغال» وحكاية الشيخ تاج رئيس الجمهورية وحقي العظيم رئيس الوزراء، وهما كما قال عميلان لفرنسا زمن الاحتلال.
وقد حفزتني أقواله لأن أتابع فيما بعد استقصاء أخبار هؤلاء «الشواذ» انطلاقاً من قناعتي ويقيني أن الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب هم وطنيون وخيرون، وكانوا ومازالوا وسيبقون هكذا رغم كل ما ينتاب حياتهم من تهميش وتهشيم وقهر وإذلال وشظف عيش وخطف واعتقال وقتل. وقد تحصل لدي معلومات مفصلة عن خونة شعبهم ووطنهم- من كل شاكلة ولون- بدءاً ممن جروا عربة الجنرال غورو إلى من استماتوا في استعداء التدخل الأجنبي أسوة بأشباههم ممن امتطوا الدبابة الأمريكية وهي تقتحم أرض العراق الشقيق، مروراً بسيرة الملوك والحكام الذين خانوا الشعوب أمثال الملك الأردني عبد الله وحفيده حسين وابنه عبد الله «الثاني» وأنور السادات، والجنرالات الفرنسين الذين تحالفوا مع هتلر ضد شعبهم ورئيس وزراء النرويج خلال الحرب العالمية الثانية «كيسلينغ».. والقائمة السوداء تزداد سواداً على سواد..
وصدق الشاعر إذ قال:
شوك هذه الأرض معروف الهويه
رغم أطواق الأحاجي والخرافة
بيد أن القلب يلظى مجبراً
فالقهر في كل المواضع.
يرعش الأوضاع يُزكي
جولة الأحرار يبنون الحقيقهْ
لم يزل يهتف يصدحْ
«يا بلادي
باسل مشوارك الدامي
على دروب البطوله».