أصوات على الطاولة
عبد الرزّاق دياب عبد الرزّاق دياب

أصوات على الطاولة

سقط الثالوث المحرم.. وقبل عقدين كانت قراءة (بلقيس) في مقصف المدينة الجامعية نوعاً من التحدي والخطورة قبل أن تلقى على قارعة الرصيف كنكرة لا تثير الذعر، وجيفة لا يكترث بها أحد.

(مديح الظل العالي) لمحمود درويش هُرّبت من جرائد ممنوعة كقطعة سلاح إلى طاولاتنا المغموسة بشاي أبو حسين في مقصف الآداب، كذلك كانت حال القصائد السياسية لنزار قباني ومظفر النواب، والكتب التي تتحدث عن تاريخ سورية والصراع عليها، وبكثير من الخوف يُحمل رأس المال إلى مكاتبنا مغلفاً بجريدة رسمية.

قبل عقدين كانت أسرارنا هكذا.. سقطت اليوم من رفوفها على الأرصفة وبقي أثر الخوف، وندبة الوجع القديم، أما المقولات والحكمة والعبارات الطويلة الآسرة لم تعد قادرة إلا على استعراض ما تبقى من مخزون الذاكرة.

هل يتذكر أولئك الذين عاشوا في زمن اختلاس القصيدة ووهج العبارة كيف كانت تقع على أسماعهم كاكتشاف جين السرطان، أو كاختراع الشاب (مارك جوكربيرج) الطالب في جامعة هارفارد موقع التواصل (فيسبوك) الذي يحرك العالم الآن.. هناك كنا نخترع الكلمات لمحاربة الخوف، هناك كانت القصائد تشكل سر العبور إلى سرير امرأة كأضعف الإيمان، وكفعل مقاومة لأكثرنا جسارة.

اليوم تسقط ذرائعنا في الحوار الذي كان شاهده الوحيد الطاولات، وحيث الاختلاف مجرد صراع لاستعراض ما نقرأ، والصراخ ليس سوى مجرد تهيئة الروح لنشيج جديد في يوم قادم، والذكورة قصيدة بصوت شاعري لكي تلتفت أنثى مثارة لتلويحة مشروع مواعدة.

حوارنا كان اختلاف القراءات، الاشتراكية كحتمية، ثورات البحر لحنا مينه والجنس المملح، روائح النساء والجنرالات والأزهار الاستوائية في روايات ماركيز وعزلته المئوية وجنراله الأعزل وبريده الفارغ، الشرق الأوسط عند عبد الرحمن منيف وأقبية الاعتقال وسباق المسافات الطويلة الذي لم ينته بعد.

أما اليوم فيراودني الدون (أنطون) الذي يلقب بـ(أبو أحمد) في نهار الجمعة على كأس ويسكي في بيته القديم مثيراً قضايا الجمارك والفساد، وعدم إيمانه القديم بالمحرمات التي عشناها فقط على طاولاتنا في الجامعة كتحد كبير.

أبو أحمد.. أو الدون الأعزب أنطون، رضع من مسلمة عندما كانت النسوة يجتمعن في ريف قصي لطقس المرأة السورية الخالص حيث لا ثدي يعرف الطائفة أو الرب الخاص.. من هم أخوة أنطون من المسلمين ومن هن أخواته، أما أمهاته المشتركات فكل الجارات، أمهات الحي أمهاته.. وهنا يختصر الثمانيني كل حواراتنا الوطنية بدءاً من أعلى سقف.. والثرثرات الباقيات يأتين.

اليوم.. على الطاولات،  تتحاور الكتل المثقلة بمشاريع البقاء، وتعيد بسرعة رسم تحالفاتها لزمن يعدنا بعالم مجهول، وهويات مبهمة، وحيث يرى الفرقاء أنهم مرايا فقط لوجوه ترهلت، وأن أحلامهم ستقود إلى أصوات تتقاطع كهتاف جمهور خاسر.

اليوم..على الذاهبين إلى الطاولة أن يدركوا تغير زمنهم، وأن حقائبهم يجب أن لا تحتوي على الخطب نفسها التي حفظوها من زمن القراءات الأولى والأيديولوجيات المتخشبة، وأن هتافات الشباب لون تجاوز الزهايمر الذي يرعشهم في أسرّة لذتهم السرية.

على الذاهبين أن يكتبوا اليوم (لا أن يكتب لهم أحد) عن بشر على الأرض وليست عن أحلام مستوردة من تجارب الانكماش والانفتاح، عليهم أن يكتبوا خطباً لحوارهم على (كيبورد) الجيل الجديد دون نظارات برستيج التحاذق الايديولوجي.. ويمسكون بجدارة (ماوس) التغيير، فقد سقطت الرفوف على قارعة الطريق، وصار بائع أقراص الجنس المدمجة على رصيف الجسر يدرك أن فارقاً كبيراً حصل لا يمكن أن يحمل إلى الطاولة على ظهر عجوز.