من الذاكرة: «داون... داون»

من الذاكرة: «داون... داون»

مع إطلالة تموز تحضرني أبيات من «خلفت غاشية الخنوع» للجواهري تقول:

يا شام يا لمح الكواكب في دجى

يا موكب الأعراس في صحراء

يا موئل الذكرى يغطي أرضها

وسماءها حشد من الأصداء

من ناذرين نفوسهم لم يعرفوا

فيهن غير فريضة وأداء

بشراة موت يزحفون إلى الوغى

زحف الحبيب لموعد ولقاء

وبراقد في ميسلون وطيفه

متنقل ينهى عن الإغفاء

ومن تلك الأصداء التي ترددت ملء جوانحي وعادت بي ستين عاماً إلى مرحلة الفتوة ومن ثم الشباب... أصداء حدثين اثنين كان لي حظ المشاركة فيهما:

الأول رافق زيارة وقحة قام بها وزير خارجية الولايات المتحدة السيئ الصيت جون فوستر دالس إلى دمشق في أيار عام 1953، إثر اشتداد المحاولات الغربية المحمومة لجر سورية نحو المعاهدات والأحلاف العدوانية الاستعمارية. وكنت حينها تحت الاختبار «فترة الترشيح الحزبي» وقد قرر الحزب إعداد «استقبال حافل» يليق بالزائر الثقيل، وتوافد الرفاق تباعاً إلى شارع الحجاز حيث فندق أوريان بالاس الذي ينزل فيه «الزائر». وعند خروجه ليستقل سيارته في طريقه للقاء رئيس الوزراء فوزي سلو في دار الحكومة بالسرايا، شقت الفضاء أصوات الرفاق تهتف ضد الاستعمار الأمريكي «داون داون يو إس إيه» بالعربي وبالإنكليزي، وضد الديكتاتورية العسكرية، وانطلقت الأيدي تقذف ما تحمله من حبات البندورة التالفة والبيض الفاسد التي سبق جمعها من مخلفات سوق الهال في أكياس ورقية سميكة وضمن محافظ مدرسية بالية، وقد أصابت إحداها رأس «الضيف» وهو ضمن السيارة التي أغلقت نوافذها وقد اصطبغت بألوان البيض والبندورة.

والحدث الثاني: هو المظاهرة الطيارة ضد السفارة الأمريكية بحي الروضة بدمشق تنديداً بالحصار الأمريكي على كوبا الباسلة، ودعماً لنضال الشعب الكوبي الذي يبني دولته الحرة على مسافة مئة كيلو متر من الولايات المتحدة معقل الإمبريالية الأكبر. وفي مثل هذه الأيام وتحديداً ظهيرة يوم جمعة من صيف عام 1962... وتنفيذاً للمهمة التي قررتها قيادة الحزب بدأ توافد الرفاق إلى محيط السفارة بشكل لا يلفت الانتباه، فمنهم من اتخذ الأرصفة مساراً بصورة عادية، ومنهم من دخل الحديقة المجاورة كمتنزهين، وآخرون دخلوا إلى مسجد الروضة وكنت في عدادهم، وقد لاحظ شيخ الجامع وفرة العدد علماً أن المنطقة قليلة الكثافة السكانية، فبدت على وجهه علائم الرضا والارتياح. ثم حانت لحظة التجمع وعلا هتاف قوي فأسرع الرفاق إلى مكان التجمع أمام السفارة ومع دوي الهتافات سلم الرفاق مسؤول السفارة رسالة استنكار وإدانة لأمريكا المعتدية على كوبا وشعبها الصديق. وهنا أيضاً علت الأصوات «داون داون.. يو إس إيه» وبدأ قذف جدران السفارة وواجهتها بحبات البندورة والبيض التالف و«انطلست» الواجهة بلون عجيب وهو منظر قلما يحدث مثيله، وقبل أن تصل قوات الشرطة والأمن أخذت المظاهرة بالتفرق بعد أن أدت وبنجاح رائع وبروح وطنية وأممية صادقة المهمة المكلفة بها.. وما زلت أتذكر عشرات من الرفاق المشاركين وبأسمائهم ومنهم:

إبراهيم بكري وخليل حريرة وعبد الوهاب رشواني ويعقوب كرو وأبو دياب يونس والزعيم والأستاذ عادل وعبد المجيد وعبد الرؤوف وميشيل وحمادة بارافي وأبو الحكم عبد الغني وسعيد أبو نبيل ومحمد علي أبو ماجد وأبو إبراهيم صلاح وأبو أحمد و....

ومن القلب تحية إجلال للراحلين وسلام عاطر لمن ما زالوا على الدرب.