صناعة الموبيليا .. حرفة في مهب الريح

صناعة الموبيليا .. حرفة في مهب الريح

 

اشتهر الريف الدمشقي منذ مئات السنين بمهنة صناعة الموبيليا والمفروشات الخشبية نتيجة توفر المواد الأولية «الأخشاب» في الغوطة، وذاع صيت جودة هذه المنتجات محلياً وعربياً كما زاد الطلب عليها بما فرضته من معايير للجودة قل نظيرها.

مهنة الآباء والأجداد

تعد مهنة صناعة الموبيليا حرفة الآباء والأجداد في الريف والمدينة أيضاً، فقد توارث ممتهنوها الخبرات عن آبائهم، حيث كان كل جيل جديد يدخل تعديلات على هذه الحرفة تتوافق مع روح العصر، وكانت منتجات هؤلاء الحرفيين تصدر إلى دول الجوار وإلى كل المحافظات السورية أيضاً، ويعمل في هذه المهنة الآلاف من الحرفيين والأجراء من أبناء الأرياف، حيث بلغ عددهم اكثر من 6300 حرفي في دمشق وريفها، وهؤلاء الحرفيون كانوا يمتلكون خبرات عالية بهذه الصناعة.
عدت هذه الصناعة المصدر الرئيس لرزق قسم كبير من سكان هذه الأرياف، حيث أنها من المهن الأساسية لهم، بالإضافة للزراعة ومهن أخرى، وترتبط بها مهن أخرى تكمل دورة الإنتاج في ورشها الخاصة كاللبخ والبويا، والتلبيس والتطعيم والتنجيد، وتجارة الأخشاب ولوازم النجارين والإكسسوارات المختلفة.
وكان يتوزع تمركز هذه المهن في داريا وسقبا وحمورية وعربين وغيرها من الأرياف الدمشقية، فكنا دائماً ما نسمع من المقبلين على الزواج أنهم ذهبوا ليشتروا تجهيزات منازلهم من هذه المدن، فيشتروا أفضل أنواع الموبيليا بأسعار جيدة وبجودة عالية، إضافة لزبائن هذه المنتجات الآتين من باقي المحافظات.


الطور الأول من الأزمة

تطبيق السياسات الليبرالية في سورية كان الأسفين الأول الذي دق، ما أدى إلى إغلاق العديد من هذه الورش أبوابها؛ فإغراق الأسواق بالمنتجات المستوردة «وخاصة التركية» منها، سبب منافسة شديدة وغير متكافئة بين منتجاتنا ذات الجودة العالية والتي لا يتقنها إلا الصانع السوري، والمصنوعة يدوياً بالحفر والتعشيق على خشب المفروشات، وبأفضل أنواع الأخشاب أيضاً وبين المنتج المستورد سيء الجودة والمشغول آلياً بأخشاب سيئة ومخلوطة بمواد معاد تدويرها «ببقايا القمامة» مثل الألومينيوم ونشارة الخشب الملوثة والأقمشة البالية.
من جهتها الحكومة دعمت آنذاك بسياساتها الليبرالية هذه المنتجات المستوردة فأشرعت لها الأبواب وافتتحت لها المعارض وصالات المؤسسة الاستهلاكية وسهلت لها الاستيراد وتساهلت في الضرائب المفروضة عليها، ضاربةً عرض الحائط بهذه المهنة التي توارثها هؤلاء الحرفيون من الآباء والأجداد.


حرفة على شفير الهاوية

لتأتي في ما بعد المرحلة الثانية من الأزمة، فمع اشتداد المعارك في الأرياف دمرت باقي الورش التي سلمت من اجتياح البضائع المستوردة، وتشتت شمل الحرفيين والصناع وانقسموا بين عاطل عن العمل، وبين من يعمل بالتصليحات ومن فر من الحرب إلى دول

الجوار
وكان ميسور الحال افتتح لنفسه ورشة في مكان نزوحه،  مثلاً:

 في تركيا هناك العديد من الورش التي افتتحها الحرفيون السوريون وشغلوا لديهم عمالاً سوريين، ومن هؤلاء الحرفيين أيضاً من يعمل في معامل لصناعة الموبيليا، في تركيا والسعودية والأردن وغيرها من دول اللجوء، وهكذا انتقلت هذه الحرفة من سورية للخارج، «وهو ما يذكرنا بما جرى في أيام الاحتلال العثماني من نقل للعمال والحرفيين المهرة للأستانة»، لنخسر مهنة  تعد من الإرث الاقتصادي والفني للدولة السورية، والتي كان من الواجب الوطني الحفاظ عليها وعلى ممتهنيها.
أما في الداخل فقد افتتح عدد قليل من الحرفيين الذين استطاعوا إخراج معداتهم من الأرياف، ورش صغيرة في دمشق ويعملون بعدد قليل من العمال أي عامل أو عاملين فقط بينما كانت كل ورشة في السابق يعمل بها ما بين 10 و20 عاملاً والفارق أنهم اليوم بورشهم الصغيرة يقومون بأعمال التصليح بشكل رئيسي فقط والسبب إقبال الزبائن على شراء المفروشات المستعملة وغلاء أسعار الخشب، بالإضافة إلى أنه يوجد عدد كبير من الحرفيين والعمال الذين اضطرتهم سوء الأوضاع للبحث عن أعمال أخرى.
صرح رئيس الاتحاد العام للحرفيين، أن نسبة الحرفيين المستمرين في العمل لا يتجاوز 20% من مجموع الحرفيين المسجلين لدى الاتحاد أما غير المسجلين فلا توجد إحصائيات دقيقة لهم. لابد للحكومة من أن تتحمل مسؤولياتها  بإعادة هذا القطاع الحرفي المهم،  للإنتاج عبر التراجع عن السياسات الاقتصادية التي تسببت في تدميره، وتقديم تسهيلات أكبر له مقارنةً بالتسهيلات التي قدمت لغيره لتعود عجلة الإنتاج للدوران، وتشجيع الحرفيين أيضاً على العودة للعمل من جديد، وإيجاد حواضن حرفية لهم لإعادة إنعاش واحياء مهنهم  وإنقاذ العاملين فيها من مرارة الفقر  والبطالة.