النجارة مهددة بالإنقراض.. ونيران الأزمة تلتهم الأخشاب نجارون.. من أصحاب ورش إلى سائقي تكاسي وبقالين أو عاطلين عن العمل

النجارة مهددة بالإنقراض.. ونيران الأزمة تلتهم الأخشاب نجارون.. من أصحاب ورش إلى سائقي تكاسي وبقالين أو عاطلين عن العمل

 

التهمت نيران الأزمة السورية كل شيء تقريباً، وعلى مختلف الأصعدة، وكانت النتائج الكارثية ليست على الصعيد البشري فقط، بل كان للصعيد الاقتصادي نصيب ليس بأقل كارثية، حيث فقد العديد من المواطنين مصدر رزقهم، وتحولوا من مهن إلى مهن أخرى، أو بقوا دون عمل بشكل نهائي لفقدانهم رأس المال «وتعب العمر».

الخشب يحترق والنجارون

 هجروا المهنة والبلاد
الخشب كان أكثر المهن القابلة للاشتعال بنيران الحرب، حيث كانت مهنة النجارة من أكثر المهن تضرراً، كون ورشها ومعاملها تمركزت في الريف، الذي أصبح ساخناً وخرج عن سيطرة الحكومة خلال الأزمة الحالية، وهنا اضطر النجارون إلى هجر مهنتهم، أو هجر البلاد كلها، ما زاد من الخطر الذي يداهم هذه الصنعة ويهدد بزوالها.
«قاسيون»، زارت بعض النجارين، في أماكن عملهم الجديدة بمهن مختلفة أو بمحلات «نجارة» لم يعد مدخولها كافياً لإطعام شخص واحد بحسب ما قاله البعض. أبو العز الذي كان يملك معملاً في سقباً، وفتح محلاً في شارع بغداد بذات المهنة، قال إن «من يعمل بمهنة النجارة اليوم لايشكلون 1% من الذين كانوا يعملون قبل الأزمة، فمنهم من بدل مهنته إلى مهنة أخرى كسائقي تكاسي أو سرافيس أو بائعين في الغذائيات، ومنهم من هجر البلاد بما تبقى معه من مال، وهناك جزء آخر خسر كل شي من ماله وممتلكاته في الريف الساخن، وهم اليوم يجلسون دون عمل نهائياً كونهم غير قادرين حتى على تبديل المهنة لفقدانهم مدخراتهم».
احتكار وعجز
وعن مصير العاملين اليوم في المهنة ومدى انتفاعهم مقارنة بالسابق، قال أبو العز إن «هؤلاء غير قادرين على تأمين 10% من حاجة السوق، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير حوالي 30 ضعف تقريباً دون مردود كافي لصاحب المهنة»، مشيراً إلى وجود احتكار للمواد الأولية من بعض الشركات مثل خشب الـ«MDF»، حيث بلغ سعر اللوح اليوم 6000 آلاف ليرة سورية بينما كان 1000 ليرة فقط قبل الأزمة.
وتابع «المواد متوفرة، والاستيراد مفتوح، لكن المشكلة بأصحاب المهنة غير المتوفرين، وهذا ساهم بوجود أزمة كبيرة في المنتجات بهذا الصدد»، إلا انه لم يتوقع انقراض المهنة قريباً، قائلاً: إن وجود 1% من النجارين مازالوا على رأس عملهم كافٍ للحفاظ على المهنة لسنوات.
بدوره، قال أبو عدنان والذي يجلس في ذات المحل مع أبو العز، إن «أغلب الورش التي كانت موجودة في سقبا وحمورية وزملكا وعربين، وهذه المناطق الريفية التي شكلت سابقاً مركزاً لمهنة النجارين، فقدت معداتها ودمرت مصانعها بالكامل وسرقت مستودعاتها، والبعض فقط استطاع الانتقال إلى مناطق أكثر أمانا ًمثل جرمانا وصحنايا، متبعين نظام الشراكة بين أكثر من شخص، كونهم لم يعودوا قادرين على إنشاء مشاريع كبيرة مثل السابق لفقدانهم رأس المال».
وأردف «نحن اليوم نجلس في هذا المحل وندفع أجاره شهرياً من مدخراتنا الشخصية التي ستنتهي قريباً» مشيراً إلى عدم وجود زبائن «نهائياً» وخاصة بما يتعلق بتفصيل القطع، وخاصة في ظل انتشار البضاعة الجاهزة والمستوردة، والتي لها عالمها الخاص.
خسر 100 مليون .. ومن نجار إلى بقال
أبو ينال، «نجار مطابخ خشبية» من سكان دمشق، وكان يملك ورشة ومعملاً ومحلاً ومنزلاً وقبواً في داريا قبل الأزمة مؤكداً أنه كان يعيش بنعيم ويحصل على مردود يومي «ملوكي»، وقال لـ«قاسيون»:  «الأحداث في داريا جعلتني أخسر كل ما أملك، فقد سرقت المعدات وتهدمت العقارات الخاصة بعملي، وخسرت مايقارب الـ100 مليون ليرة سورية».
وأردف «بعد خسارتي، اعتقدت بان الأزمة ستنتهي خلال أشهر، وبدأت الإنفاق من مدرخاتي، حتى بدأت تنضب، وحاولت العمل بذات المهنة مرة أخرى، لكني لم أتقبل العمل كصانع لدى أحدهم بعدما كنت من أسياد المهنة، وعلى ذلك اضطررت لفتح بقالية لبيع الأجبان والألبان قرب سكني، إلا أن هذه المهنة لا تعود عليّ سوى بمردود ضئيل جداً لا يقارن بالسابق».
وبدوره، قال أبو محمود، الذي كان يملك ورشة في زملكا، وخلال الأزمة انتقل إلى كفرسوسة بمدينة دمشق: إن «حركة العمران خفيفة جداً، وأزمة السكن خانقة، وكل ذلك يؤثر سلباً على مهنتنا بضعف الطلب، وقد تمر أشهر على ورشتي في كفر سوسة دون دخول زبون واحد، عداك عن صعوبة النقل والمواصلات للحصول على البضاعة، وارتفاع التكاليف بشكل جنوني».
وفي سياق آخر، قال السيد الذي عرف عن نفسه بلقب «أبو محمد» لـ«قاسيون»: «امتهنت النجارة منذ كان عمري عشر سنوات، واليوم عمري 60 عاماً، ومنذ صغري وأنا أعمل بالمصانعة وبعدها بالشراكة، حتى استطعت امتلاك ورشة خاصة بشق الأنفس وضعت فيها (ما فوقي وتحتي) إضافة لبعض الديون مع مساعدة أحد أولادي، وكان لدي عمال قادرون على إنتاج بضائع بجودة عالية، وكانت هذه الورشة الصغيرة تعيل حوالي 10 عائلات على الأقل، وهذا الكلام بأوائل 2011».
وتابع: ورشتي التي كانت في سقبا (ريف دمشق)، من ورش تصنيع النجارة السورية  القليلة في المنطقة، وخاصة بعد عزوف غالبية النجارين هناك عنها، مع دخول غرف النوم والمنجورات التركية التي تضم موزعين كثر، وتعود بكمسيونات كبيرة، جعلت أصحاب المهنة يتحولون من (معلمين شورهم من راسهم)، لبائعين بالقطعة، وكل القطع تشابه بعضها، دون منافسة أو حرفة، ما انعكس سلباً على أصحاب المهنة الأساسية لأن كثيراً من (الشغيلة اتقلعوا من شغلهم لأن أصحاب الورشات أنفسهم فلّسوا).
أين الدولة؟
وأردف «جزء كبير من هؤلاء (المعلمين والشغيلة) ومع دخول السلاح في الأزمة السورية، ذهبوا مع المسلحين في الريف، وأنا اضطررت أن أترك الورشة التي علمت مؤخراً بانها احترقت بكل المعدات والألواح المخزنة فيها، يعني (انخرب بيتي وضاع شقى عمري)، والآن عم (طقطق) على تكسي».
 قريب «أبو محمد» الذي عرف عن نفسه باسم «باسم» والذي دخل في أثناء حوارنا مع الأول، أضاف «نحن عائلة نجارين أباً عن جد.. وورشنا وحواصل الخشب التي نملكها كانت موجودة بأطراف زملكا و(فهمك كفاية)، ولن أضيف كثيراً على الذي قاله أبو محمد، لكننا اليوم تحولنا لنازحين وحالياً أعمل (شقّيع بمكتب تجارة سيارات)، يعني من معلم فاتح بيوت إلى شغيل صغير (يا دوب كافي حالو)».
ختم باسم حديثه بمناشدة الحكومة في سورية للنظر بحالهم كأصحاب مهن قائلاً: (لك وينها الدولة؟ ووينها الحكومة؟ ولا بس شاطرين يرفعوا الأسعار؟)، ثم غص واستدرك: (مستورة.. المهم ينستروا هالصغار.. وأولادي الكبار يدبروا راسهم.. بس والله هالمعيشة والغلا ما بيرحموا.. خليها بالقلب تجرح أحسن شي).
90% من الحرفيين دون عمل
رئيس اتحاد حرفيي دمشق مروان دباس، قال مؤخراً في تصريحات صحفية: إن «الكثير من الحرفيين السوريين أصبحوا عاطلين عن العمل مشيراً إلى أن نحو 90% منهم أصبحوا دون عمل نتيجة الأزمة الراهنة التي تمر على سورية، مؤكداً أن هذا يشكل خطورة على قطاع الحرفيين، وخاصة أن الحرفيين السوريين يهاجرون إلى الأسواق الخارجية للعمل فيها، كون الحرفي السوري ذو مهارة نادرة».
وتابع: «من الضروري توفير مناطق آمنة للحرفيين المهنيين في بعض المناطق، من أجل أن يمارسوا نشاطهم فيها بشكل مؤقت لحين عودة الأمن والاستقرار لمناطقهم السابقة، وأن يتم توفير الكهرباء لهم»، لافتا إلى أن «عدم توفير مناطق للحرفيين دفع بهم لممارسة نشاطهم على أرصفة الطرقات».
وأكد أن مهنة الحرفيين تفتقد التنظيم، إذ يوجد في دمشق نحو 100 ألف حرفي ولكن عدداً كبيراً منهم غير مسجل في الاتحاد.