السيسي والنخبة الاقتصادية: مهادنة أم مواجهة؟
مصطفى اللباد مصطفى اللباد

السيسي والنخبة الاقتصادية: مهادنة أم مواجهة؟

انشغل المصريون بالنتائج غير الرسمية والأولية لانتخابات الرئاسة المصرية، والتي أظهرت فوزاً كاسحاً للمرشح عبد الفتاح السيسي بنسبة تجاوزت 93 في المئة من أصوات المشاركين. وما زال الجدل في بر مصر قائماً حول معنى ومغزى نسبة المشاركة المتدنيـة في هذه الانتـخابات (في كل الأحوال أقل من 50 في المئة)، بالرغم من مـنح المصريين عطلة في اليوم الثاني للانتخابات، ومد الانتخـابات ليوم ثالث غير متفق عليه، أو حتـى الإعـلان عن توقـيع غرامـة مالية على المقاطعـين.

تطرح نسبة المشاركة المتدنية بوضوح سؤال «الشرعية» على الرئيس المنتخب، بما ينقله بحكم الأمر الواقع من «الزعيم المستدعى من الجماهير» و«الزعيم الضرورة» التي كانت له قبل الانتخابات إلى «الرئيس صاحب الأغلبية» الساعي للحفاظ عليها بانحيازه لجماهير المصريين. تذهب هذه السطور مباشرة إلى ما هو أبعد من نتيـجة الانتخابات الرئاسية المصرية (المتوقع إعلانها رسمياً اليوم أو غداً)، لتطال واحدة من أهم التحديات التي تواجه المشير عبد الفتاح السيسي: النخبة الاقتصادية المصرية وطريقة تعامله معها. يشهد الاقتصاد المصري أزمة مركبة، أهم مؤشراتها أن حجم العجز في الموازنة العامة أصـبح يسـاوي أربعة عشر في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وأن حجم الدين الداخلي يفوق جملة الناتج المحـلي الإجمـالي، بالتـوازي مع تردٍ حاد في مسـتويات المعيـشة لغالبية المصريين. لذلك لن يكفي حـلو الكلام للتـعامل مع تحـديات بـهذا الحجـم؛ وإنما سياسات اقتصادية - اجتماعية قادرة على الوصول إلى جذور الأزمة ومعالجتها. وبـدوره يرتهـن هذا الأمر بطـبيعة خارطة التحالفات الاقتصادية والاجتماعية للرئيس القادم.

رؤية السيسي الاقتصادية

بالرغم من غياب برنامج رئاسي متكامل له، إلا أن السيسي وحملته أعلنا في غير مناسبة عن النية في إطلاق مشروعات كبرى لإقالة الاقتصاد المصري من عثراته وأزماته. ووفقاً لعملية بحث استطلاعية فقد أعلن المرشح الرئاسي شخصياً أو حملته الرئاسية في مناسبات متفرقة عن مشروعات كبرى يمكن إجمال أهمها في التالي: توسيع منطقة قناة السويس لتصبح مدينة صناعية ولوغستية عالمية، علاوة على تطوير البنية التحتية لقطاع الطاقة، وكذلك إقامة خطوط سكك حديدية سريعة، وليس آخراً بناء ما يزيد عن أربعين مدينة ومركز سياحي جديدة. يعكس المنطق الداخلي لهذه الرؤية اقتناعاً بأهمية المشروعات الكبرى لتحقيق الطفرة الاقتصادية، والثقة بالعائد السياسي الكبير لها. ولا ننسى هنا أن الإعلان عن مشروعات كبرى هو ما دغدغ في الواقع أحلام القطاعات الشعبية الأوسع في المنطقة، استناداً على سوابق تاريخية في مصر وغيرها من دول الشرق الأوسط. بدورها ستحتاج هذه المشروعات إلى استثمارات ضخمة تزيد بكثير عن مئة مليار دولار، والأخيرة ستكون نظرياً نتاجاً لتضافر وتحقق مجموعة من العوامل: الدعم الخليجي، إسناد مؤسسات التمويل الدولي، استنفار واستنهاض الطاقات الاقتصادية للمؤسسة العسكرية المصرية، وتعاون النخبة الاقتصادية المصرية. لذلك الغرض ولمزيد من طمأنة النخبة الاقتصادية المصرية، فقد عمدت الحكومة في شهر نيسان الماضي إلى تغيير قانون الاستثمار، بحيث تصبح تعاقـدات الحـكومة مع المستثمـرين محـصنة ضـد قرارات الطـعن علـيها، كما حدث وبنجاح مع عشرات المصانع التي تم تخصيصها لمستثمرين بالمخالفة لشروط الشفافية وبسعر أقل كثيراً من قيمتها الحقيقية، بحيث عادت هذه المصانع إلى ملكية الدولة مرة أخرى بقرارات من المحاكم بناء على دعاوى رفعها نشطاء مصريون. اللافت هنا أن القانون تم تغييره بأثر رجعي، بحيث ستتوقف المحاكم حتى عن النظر في قضايا مرفوعة أمامها ولم يبت فيها حتى تاريخ إصدار القانون!.

النخبة الاقتصادية المصرية

تعد النخبة الاقتصادية المصرية محدِّداً لقدرة الرئيس القادم على تنفيذ وعوده وتحقيق أحلام ناخبيه، لعدة أسباب موضوعية أولها مواقع هذه النخبة شبه الاحتكارية في الاقتصاد المصـري، وثانيها شبكة علاقاتها المحلـية والإقليمية والدولية، ما يجعلها عقبة رئيسة في مواجهة أي حكم ذي صبغة وطنية في مصر. وفوق ذلك تمتلك النخبة الاقتـصادية المصرية وسائل الإعلام النافذة في الرأي العام المصري، وهو أمر ظهرت حقيقته مجدداً في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حيث ركزت بوضوح على خواء مراكز الاقتراع في اليومين الأولين للانتخابات، بغرض إظهار مخالبها وتحجيم شعبية السيسي، قبل أن يجلس على كرسي الرئاسة. تخوفت النخبة الاقتصادية المصرية منذ 2011 من محاسبة جدية على ما تم اقترافه في السنوات العشر الأخيرة، وخصوصاً عمليات شراء و«تسقيع» الأراضي بعشرات ملايين الأمتار من أملاك الدولة وبأسعار رمزية (التسقيع هـنا يعني الشـراء والاحتـفاظ بالأرض من دون استثـمار لحين ارتفاع ثمـنها بتواطؤ من مؤسسات الدولة). وجعل التمازج والتشابك في المصالح بين الدولة ومؤسساتها مع النخبة الاقتصادية، الصعود إلى قمة هذه النخبة الاقتصادية مرتهناً بقرار من الدولة، القادرة على تصعيد وتهبيط هذه النخبة وفقاً لاعتبارات غير شفافة. ولم يشذ حكم «الإخوان المسلمين» عن هذه القاعدة في علاقات الحاكمين بالنخبة الاقتصادية، فحاولوا في سنة حكمهم إبرام صفقات سياسية لأغراض توسيع هذه النخبة، بما يضمن نفاذ رجال أعمال منتمين إلى الجماعة إليها، ولذلك أجرت الجماعة - عبر وسطاء - مفاوضات مباشرة مع بعض أطراف هذه النخبة في لندن وغيرها من العواصم الأوروبية من دون جدوى.

اعتمد قسم آخر من النخبة الاقتصادية المصرية على الدعم الذي قدمته الدولة بكثافة على أسعار الطاقة، إذ ذهب الشطر الأعظـم من فاتـورة هذا الدعم (تتغنى به وسائل الإعلام المملوكة للنخبة الاقتصادية المصرية باعتباره دليلاً على انحياز الدولة للفقراء) إلى جيوب أفراد من هذه النخبة، الذين يستثمرون في القطاعات المعتمدة بكثافة على الطاقة المدعومة من الدولة لإنتاج سلع مثل الحديد والإسمنت والسيراميك. على ذلك لم يجسد صعود مؤشر البورصة المصرية في فترة ما قبل الانتخابات الرئاسية رواجاً اقتصادياً بقدر ما عكس توقعات إيجابية آتية بعد الانتخابات الرئاسية، لا سيما في السوق العقاري. وربما كان إغلاق البورصة المصرية أمس الأحد ووقف التعامل بها بسبب خسائر حادة في الساعات الأولى لعملها، اعتراضاً خشناً من أصحاب المصالح الكبار على ضريبة 10 في المئة من أرباح البورصة والتي تم إقرارها أخيراً، في تحد مكشوف للسيسي قبل أن يبدأ ولايته رسمياً. ونقل عن رجال أعمال كبار قولهم: «لا نريد في هذه الانتخابات المفاضلة بين حمدين صباحي وآخر»، في إشارة واضحة إلى الانحيازات الاجتماعية للمرشح الخاسر. مرة أخرى تتضح طبيعة التداخل في المصالح بين مؤسسات الدولة والنخبة الاقتـصادية، فعلى الرغم من أن الأخيرة الناشـئة بـقرار تعيـين من الأولى إلا أنها قد عززت من قدراتها التساومية في السنوات القليلة السابقة على الإطاحة بمبارك عـبر نقـل أموالها إلى الخارج؛ فأصبحت أقل عرضة لسطوة الدولة وأجـهزتها. ولا يغيب في هذا السياق ملاحظة أن كل الفرقـعات الإعلامـية، على مدار السنوات الثـلاث الماضية، بخصوص استعادة أموال المصريين المهربة إلى الخارج المقدرة بعشرات المليـارات من الدولارات، قد ذهبت أدراج الرياح من دون متابعة قانونية جدية.

الخلاصة

يقـف السيـسي أمام معـضلة كبيرة واختبار كاشف لرئاسته من الآن، فمن ناحية طالما استمرت ذات السياسات الاقتصادية - الاجتـماعية السابقة في مكانها، فلن تغير المشـروعات الاقتـصادية الكـبرى ـ حتى بافتراض إتمامـها فعلاً - من الأوضاع الاجتماعية للشرائح الأكثر فقراً في المجتمع المصري شيئاً. ساعتها سيتأكد في مصر مرة عاشرة على التوالي درس كلاسيكي مفاده أن ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي بدون عدالة في توزيع الدخول، لن يعني سوى مراكمة النخبة الاقتصـادية ورعاتـها في الخارج (والأخيرة تحتها خطان) لأرباح إضافية يداً بيد مع تهميش متزايد لشرائح اجتماعية أوسع، ما يجعل مسببات الانتفاضة الثالثة جاهزة وناجزة. وبالمقابل فإن تقليم أظافر النخبة الاقتصـادية لمصلـحة الشرائح الاجتماعية الأوسع ـ بافتراض توافر الإرادة السياسية ـ ، سيعني مقاومة شرسة لنظام الحكم الجديد وعرقلة لأهدافه وضغطاً اقتصادياً غير مسبوق عليه في ظل الأزمة الاقتصادية التي تشهدها مصر راهناً. على الرئيس القادم أن يختار بين المهادنة والمواجهة، وكلاهما له تكاليفه وتحدياته. على ذلك تجسد السياسة الاقتصادية المتوقعة للرئيس القادم وطريقة تعامله مع النخبة الاقتصادية مؤشراً لا يخيب على حقيقة توجهاته السياسية، كون السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة. ولأنه لا يمكن تغطية الانحيازات الاجتماعية أو التعمية عليها بحلو الكلام مهما كان الإعلام نافذاً ومؤثراً، فستكشف الفترة المقبلة مدى مطابقة أحلام وتمنيات ملايين المصريين من ناخبي السيسي للواقع الملموس. وفي النهاية يبقى سؤال تأسيسي برسم الإجابة: هل يمكن الحديث أصلاً عن «حكم وطني» - في مصر أو غيرها - من دون حد أدنى من العدالة الاجتماعية؟

المصدر: السفير

آخر تعديل على الثلاثاء, 03 حزيران/يونيو 2014 16:18