من يدفع ثمن العقوبات الغربية على روسيا؟

من يدفع ثمن العقوبات الغربية على روسيا؟

إذا كان الهدف الأمريكي المبطن من العقوبات على روسيا هو ضرب عصفورين بحجر واحد، فيبدو أن إصابة العصفور الأوروبي أبلغ وأشد بما لا يقارن.

وليس بعيداً عن مهندس العقوبات الذي جعل المغزى الرئيسي منها قطع الغاز (جزئياً ثم كاملاً) والنفط وكل موارد الطاقة الممكنة عن أوروبا، والمواد الأولية لاحقاً - ليس بعيداً عنه حتماً تدمير الاقتصاد الأوروبي، عن طريق السيطرة على دوائر تنفيذ القرارات الأمريكية في قيادة الاتحاد الأوروبي وقيادات دولتَيه الأساسيَّتَين: ألمانيا وفرنسا.

فأوروبا تعتمد بشكل كبير على موارد الطاقة الروسية، وقد سببت العقوبات الأوروبية على روسيا، التي تشمل حظراً على شراء النفط والغاز، خسائر كبيرةً في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية الجارية. إذ تشكل إمدادات الغاز الروسية 40% من احتياجات الاتحاد الأوروبي، والنفط الروسي يشكل 26% من وارداته. وأدت العقوبات  (مع تداعيات الأزمة العالمية) إلى تضخم غير مسبوق داخل الدول الأوروبية، وخاصة في بعض البلدان مثل ألمانيا وإيطاليا والنمسا المعتمدة بشكل كبير على الطاقة الروسية، ويشكل حظر النفط والغاز الروسي ضربة كبيرة للاقتصاد الألماني.

وتأتي الضربة الأخيرة  بشكل "قنبلة نووية اقتصادية" على حد تعبير صحيفة "بوليتيكو" التي أكدت أن الاتحاد الأوروبي لن يتمكن من حظر استيراد الألمنيوم الروسي في ظل الرفض الشديد من الصناعيين الأوروبيين، الذين يعتبرون أن اتخاذ مثل هذا القرار "كتفجير قنبلة نووية اقتصادية".

ووفقاً للصحيفة، فإن مثل هذا الاقتراح "سيواجه معارضة من الدول الصناعية مثل إيطاليا وألمانيا، لأنه سيؤدي إلى ارتفاع الأسعار"، مشيرة إلى أن الاتحاد الأوروبي لا يزال يستورد 9% من الألمنيوم لصناعاته من روسيا.

يأتي ذلك ضمن الاستعدادات  للحزمة الثالثة عشرة من عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد روسيا، التي يعتزم اعتمادها بحلول 24 شباط الجاري.

وتضمنت حزمة العقوبات الأخيرة التي فرضها الاتحاد الأوروبي على موسكو حظر استيراد الألماس والمجوهرات من روسيا.

وتم فرض حظر واسع النطاق على استيراد النفط الخام والفحم والصلب والذهب والسلع الفاخرة، بالإضافة إلى التدابير التي تستهدف البنوك والمؤسسات المالية.

ويمكن أيضاً أن يتم اتخاذ قرار بشأن امتصاص عائدات أموال البنك المركزي الروسي المجمّدة.

كما ستستهدف العقوبات المزيد من الشركات التي تسهم في التطوير العسكري والتكنولوجي في روسيا أو في تطوير قطاع الدفاع والأمن لديها، ولن يتسنّى بعد ذلك للاتحاد الأوروبي أن يبيع السلع والتقنيات ذات الصلات العسكرية لروسيا.

وإذا كانت العقوبات حسب التعريف السياسي الغربي هي الوسيلة  التي تستخدمها الدول لمعاقبة الدول الأخرى، بسبب قيامهم بخرق القوانين الدولية، فما معنى الأضرار التي تلحق بشكل متصاعد بالاقتصاد الأوروبي جراء العقوبات على روسيا؟

تضمن العقوبات بالإضافة إلى حظر الطاقة، تجميد أصول البنك المركزي الروسي، وإبعاد بعض البنوك الروسية عن نظام سويفت، ما يعيق قدرة روسيا على الحصول على عائدات بيع نفطها وغازها. بالإضافة إلى عقوبات على الأشخاص، وتعليق صادرات عدة سلع إلى روسيا، منها أشباه الموصلات، وفرض قيود على المنتجات التي يمكن إرسالها إلى روسيا والتي يمكن استخدامها للأغراض المدنية والعسكرية على حد سواء.

وقد ظهرت بشكل متزايد دلائل التعافي في الاقتصاد الروسي خلال العامين الماضيين، من خلال  اتخاذ البنك المركزي الإجراءات اللازمة التي شملت رفع سعر الفائدة بشكل حاد، وفرض ضوابط صارمة على الصرف لمنع الطلب على العملات الأجنبية. وإحلال الإنتاج المحلي تدريجياً محلّ الواردات في انتظار تحسن الوضع، بعدما تسببت العقوبات في تقليص الواردات دون أن تتعطل الصادرات.

وإذا كان الهدف من العقوبات هو تدمير الاقتصاد الروسي، فمن الصعب وصفها بأنها ناجحة، حيث ظهر أن أوروبا تحتاج إلى الغاز الروسي أكثر بكثير مما يحتاج الكرملين إلى النقد الأوروبي.

ويبدو مؤشر ارتفاع فواتير الطاقة بنسبة 54% في بريطانيا واضحاً، حيث يتعرض الغرب لأضرار اقتصادية خطيرة نتيجة لارتفاع تكاليف الطاقة.

وقد أشار وزير الخارجية المجري بيتر زيجارتو العام الماضي، إلى أن عقوبات جديدة على روسيا ليست ضرورية لأنها "تسبب ضرراً لأوروبا أكثر من موسكو"، مشيراً إلى أنه: "إذا بدأت الحبوب الأوكرانية في الانتشار إلى دول أوروبا الوسطى، فإنها ستدمر بالتأكيد الأسواق الزراعية في أوروبا الوسطى. ناهيك عن مزارعينا، الذين من الواضح أننا بحاجة إلى حمايتهم".

وتعتبر مسيرات المزارعين في عدد من الدول الأوروبية على جراراتهم كما في ألمانيا وفرنسا وهولندا تجسيداً حياً لما عبر عنه زيجارتو.

فيما تتوقف المصانع في ألمانيا عن العمل نتيجة ارتفاع أسعار الغاز، وآثار العقوبات ضد روسيا، كمصنع Vallourec Germany  الذي سبقه توقف أربع شركات تعدين عن أنشطتها في ألمانيا التي تعد قاطرة الاقتصاد الأوروبي وسط مخاوف ألمانية من تراجع الصناعة الألمانية، وقلق كبير إزاء "مستقبل الاستثمار دون الغاز الروسي"، بعد "تدهور بنية" القطاع الصناعي في ألمانيا مع نقل شركات الإنتاج والاستثمار إلى الخارج.

إنّ الصناعة الألمانية "تشتري الغاز بأسعار أعلى بثلاثة أضعاف من أسعار السوق الداخلية في الولايات المتحدة" وفي ظل ذلك يتدفق الإنتاج إلى أمريكا الشمالية رغم التحذيرات التي يطلقها قطاع الأعمال، وخسائر أوروبا من القطيعة مع روسيا فلكية، فالرقم 1.6 تريليون دولار أكبر من اقتصادات مثل إسبانيا وهولندا وتركيا ويعادل نحو 40% من حجم اقتصاد ألمانيا للعام 2022.

ويبدو أن هذه "النيران الصديقة" لم تبدأ عشية العملية العسكرية على أوكرانيا لكنها بدأت منذ 2014 حسب دراسات المراكز الأوروبية.

وقد حاولت بعض دول الاتحاد الأوروبي أن تتجنب تعطيل صادرات الطاقة الأساسية من روسيا، التي تعتمد عليها على وجه الخصوص لتدفئة المنازل وتشغيل المصانع لكن الضغوطات الأمريكية حتى وقت قريب كانت أكبر من الممانعة الأوروبية.

وقد أدت عقوبات الحظر الجوي الغربي على روسيا إلى إجراءات صعبة؛ حيث إنّ طائرات الشحن الأوروبية تضطر إلى تحويل مسارها إلى طرق ملتوية، مما يؤدي إلى إنفاق المزيد على الوقود، وربما تقليل حجم حمولاتها؛ ما يسبب ارتفاعاً كبيراً في أسعار النقل عبر المحيطات والجو، وكذلك أسعار الشحن في المحيطات التي تتضاعف ثلاث مرات لتصل إلى 30 ألف دولار للحاوية، بدلاً من 10 آلاف دولار للحاوية.

كما أن روسيا هي أكبر مورد للقمح في العالم، وتمثل مع الهند وأوكرانيا ما يقرب من ربع إجمالي الصادرات العالمية. هذا بالإضافة إلى نقص المعادن الأساسية. وقد ارتفع سعر البلاديوم، المستخدم في أنظمة عوادم السيارات والهواتف المحمولة، فروسيا هي أكبر مصدر في العالم للمعدن، وقد ينقطع عن الأسواق العالمية، هذا إلى جانب ارتفاع سعر النيكل، وهو أحد الصادرات الروسية الرئيسية الأخرى.

ويبدو أن خطط الاتحاد الأوروبي السابقة في إعادة بناء العلاقات الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي وروسيا على أساس انتقال الطاقة، والتخفيف من آثار تغير المناخ، لم تعد مؤكدة، هذا إلى جانب توقف أي تعاون في الاقتصاد الرقمي والطب والدواء، وهما مجالان آخران مهمان لاحتمالات الانتعاش الاقتصادي الحالي واقتصاد المستقبل.

أخيراً، قلّلت العقوبات من أهمية الاتحاد الأوروبي لروسيا، وما يمكن تسميته بالقوة الناعمة للاتحاد الأوروبي. جاء هذا نتيجة "التحالف الوثيق" بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن العقوبات، أو بالأحرى فرض "تبني سياسة العقوبات" على القيادات الأوروبية. وهكذا فإن الاتحاد الأوروبي، الذي يمثل نحو ٤٠% من التجارة الخارجية لروسيا، أصبح في موقف يشبه موقف من يطلق الرصاص على قدمه. حيث حرمت العقوبات الأمريكية الاتحاد الأوروبي من قدر كبير من استقلاليته في بناء علاقاته الاقتصادية مع روسيا. وتحتفظ واشنطن بالحق في فرض عقوبات على انتهاك نظام العقوبات الخاص بها.

آخر تعديل على الأحد, 11 شباط/فبراير 2024 11:23