مياه الحسكة... بين مطرقة الاحتلال وسندان الاستغلال

مياه الحسكة... بين مطرقة الاحتلال وسندان الاستغلال

لا يزال أهالي مدينة الحسكة يرزحون تحت وطأة العطش في هذه الأيام الصيفية الحارقة، وذلك نتيجة قطع مياه محطة علوك المغذّية لمدينة الحسكة منذ قرابة خمسة أشهر.

■ مراسل قاسيون – الحسكة

ويعاني أهالي مدينة الحسكة، مركز محافظة الحسكة، من الشح والتردّي بوضع المياه في المدينة، وذلك نتيجة عدم توفر مياه صالحة للشرب في جوف تلك المنطقة، الأمر الذي تطلّب إيجاد مصدر للمياه تُغذّى من خلاله المدينة.

جذور الأزمة

وتعتبر محطة مياه علوك، التابعة لمدينة رأس العين المحتلة، مصدراً معقولاً لتأمين المياه لمدينة الحسكة، حيث تم الاعتماد على هذا المصدر منذ سنوات، على الرغم من أن إنتاج هذه المحطة لم يكن يلبي احتياجات أهالي الحسكة بالشكل المطلوب، إلا أنه كان يفي بجزء من الغرض.

ولكن مع احتلال مدينة رأس العين وريفها من قبل الاحتلال التركي، بات ضخّ المياه من هذه المحطة متوقفاً بشكل شبه دائم، ما يؤدي إلى حرمان أكثر من مليون مواطن من المياه الصالحة للشرب، دون وجه حق.

تبادل الاتهامات

يتبادل كلا الطرفين - الفصائل الموالية للاحتلال التركي التي تسيطر على المدينة، والإدارة الذاتية - يتبادلان الاتهامات حول المتسبب في قطع المياه عن الحسكة، فمرتزقة الاحتلال التركي يتهمون الإدارة الذاتية بقطع الكهرباء المغذّية لمحطة علوك، والتي تصل المحطة من محطة تحويل كهرباء الدرباسية، ما يؤدي إلى وقف عمل المحطة، في حين تنفي الإدارة الذاتية هذه الاتهامات، وتحمّل المسؤولية للفصائل الموالية لأنقرة بقطع المياه عن الحسكة كأحد أشكال الحرب على أهالي المنطقة.

لا يمكن تأكيد أيّ من الروايتين بشكل مطلق، كما لا يمكن نفي أيُّ من الروايتين بشكل مطلق أيضاً، ولكن المؤكَّد هو أنّ أكثر من مليون نسمة يعيشون دون مصدر ثابت لمياه الشرب، وذلك منذ نحو خمسة أشهر متتالية، فضلاً عن مرات القطع السابقة والمتقطّعة، حيث في كل مرة تقطع المياه لعدة أشهر.          

مناشدات وفقط

منذ احتلال مدينة رأس العين، وتكرار انقطاع المياه عن الحسكة، يجري الحديث في أوساط الإدارة الذاتية وإعلامها عن أسباب المشكلة، من خلال إدانة تصرّفات الاحتلال ومطالبة المنظّمات الدولية لإيجاد حلٍّ لهذه المشكلة، دون أن تُبدي الإدارة الذاتية أيّ نية جدّية للإيجاد بدائل عن محطة علوك، حيث يقتصر حديث الإدارة الذاتية في هذا الجانب على الدراسات والأفكار والخطط، دون أن يتم ترجمتها على أرض الواقع، وبأحسن الأحوال، دون أن يستكمل أيّ مشروع حتى النهاية نتيجة إخفاقه في مراحله الأولى بسبب عدم جدواه.

مشاريع لم تستكمل

في بدايات عام 2010 كانت الحكومة قد طرحت فكرة استجرار مياه نهر دجلة لمدينة الحسكة، وكانت قد بدأت ببعض الخطوات في هذا الاتجاه، إلا أنّ انفجار الأزمة حال دون استكمال هذا المشروع. وعلى الرغم من عدم التأكد من فاعلية هذا المشروع، أولاً بسبب عدم استكماله كما قلنا، وثانياً بسبب بعد المسافات بين مدينة الحسكة ونهر دجلة، الأمر الذي يتطلب إمكانيات ضخمة من جهة محطات التحلية والضخ على طول هذه المسافات، على الرغم من ذلك إلا أنه قد خطا بعض الخطوات نحو التنفيذ.

المشروع أعلاه شكّل بارقة أمل لدى أهالي الحسكة، حيث ظنّوا بأن مشكلتهم ستُحَلّ، ولكن سرعان ما تبدّد هذا الأمل نتيجة انفجار الأزمة، ليستمرّ سكان الحسكة بمعركتهم من أجل المياه، حيث استمرّ الأمر على حاله، من خلال تقسيم المدينة إلى قطّاعات، بحيث تجري تغذية قطاع أو أكثر كلّ فترة، وذلك بالاعتماد على محطة علوك، التي لا يمكن لها أن تغطي المدينة بدفعة واحدة.

ولكن مع احتلال مدينة رأس العين وريفها، ومحطة علوك ضمناً، في عام 2019، فإنّ أهالي الحسكة باتوا عطشى بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بعد وضع قضية مياههم في ميزان البازارات السياسية.

تجارة مربحة

في ظلّ شنّ هذا النوع من الحروب على أهالي مدينة الحسكة، والمترافق مع موجة ارتفاع الحرارة التي تشهدها المنطقة، وكما الحال مع كل الأزمات، تطفو على السطح مظاهر الجشع والاستغلال التي تحوِّلُ كلَّ أزمةٍ إنسانية إلى مصدر تربُّح على حساب عذابات الناس، فمع بروز أزمة المياه هذه، بدأت الصهاريج تنتشر في أحياء مدينة الحسكة، لبيع المياه للأهالي مقابل مبالغ طائلة، حيث إنّ كلَّ خزّان من سعة الألف متر مكعب تتمّ تعبئته بـ 15 ألف ليرة سورية، وكلّ عائلة تحتاج بالحدّ الأدنى خزّانين في الأسبوع من هذه الخزّانات، أي أنّ كلَّ عائلة تحتاج إلى 120 ألف ليرة شهرياً لتأمين مياه الاستهلاك اليومي، عدا عن التكاليف التي تُدفَع لتأمين مياه الشرب (بقّين)، والتي يضطرّ الأهالي لشرائها بالطُّرود، وليس بالعبوة أو العبوتين.

مبادرات شعبية

كما كلّ الكوارث التي اجتاحت سورية، يثبت الشعب السوري بأنه يدٌ واحدة وقلبٌ واحد في وجه هذه الكوارث، وآخرُ دليلٍ على ذلك، كانت المبادرات الشعبية التي أطلقها أهالي كلّ من مدينة القامشلي  ومحافظتَي الرقّة ودير الزور، حيث توجَّهتْ قوافلُ من الصَّهاريج من هذه المدن إلى مدينة الحسكة لمساعدة الأهالي هناك والتّخفيف من معاناتهم، ولكنَّ ثقبَ الفساد الأسود، المشرِف على توزيع هذه الصهاريج بعد وصولها إلى مدينة الحسكة، يحول دون استفادة الأهالي بالشكل المطلوب من مياه هذه الصهاريج، فضلاً عن أنّ هذه المبادرات، على الرغم من أهميتها، لا يمكن أن تقدم حلولاً جذرية ودائمة لمثل هذه الأزمات الكبيرة، والتي يتطلب حلّها إرادةً قويّة وإحساساً عالياً بالمسؤولية.

مشاريع ارتجالية

كما أسلفنا، فإنّ الإدارة الذاتية لم تُقدِّم حتى الآن أيَّ مشروعٍ جدّي يمكن اعتمادُه كحلٍّ جذري لهذه المسألة، وكلُّ المشاريع التي طرحَتْها الإدارة الذاتية تُثبت عدم فاعليّتها حتى قبل البدء بتنفيذها.

آخر هذه المشاريع كان مشروع استجرار المياه من جنوب مدينة عامودا باتجاه مدينة الحسكة، والتي تبعد عنها حوالي 65 كم، وعلى الرغم من إطلاق هذا المشروع منذ عام 2019، إلا أنّه حتى الآن لم يتقدَّم أيّ خطوة نحو الأمام، عدا عن حفر بئر واحد في تلك المنطقة، حيث يواجه المشروع صعوبات عديدة تثبت ليس عدم فاعليّته فحسب، بل والأضرار التي سيلحقها هذا المشروع بالمنطقة التي سيتمّ استجرار المياه منها، خاصّةً وأنّ هذه المنطقة تقع في نهاية الحوض المائي لتلك المنطقة، وسحبُ أيِّ كمّية من المياه من تلك المنطقة سيؤدّي إلى انخفاض منسوب المياه الجوفية للمنطقة، الأمر الذي دفع بالأهالي إلى معارضة هذا المشروع ومحاولة إيقافه.

المشروع أعلاه يحوي على العديد من السلبيات، التي تكاد تُغطّي على إيجابيّاته، لذلك سنتناول هذا المشروع وبتفصيل أكبر لاحقاً في «قاسيون» وما فيه من نقاط القوة والضعف.

الحل الجذري

بات معروفاً لدى السوريين، بأن كلّ أزماتهم المعيشية مرتبطة بأزمتهم السياسة العامة، وباتوا على يقين بأنّ أيَّ حلٍّ لأيِّ مشكلة من مشكلاتهم، مرتبطٌ بشكل وثيق مع الحلّ السياسي على أساس القرار 2254، والذي يعني من ضمن ما يعنيه خروج كافة القوّات الأجنبية من سورية، وعلى رأسها تلك القوّات التي دخلت دون أيّ شرعيّة.

ولكن حتى ذلك الحين، لا يمكن البكاء على الأطلال واستجداء الخارج لحلّ مشكلاتنا، بل يجب العمل على إيجاد حلولٍ مستدامة، وفي موضوع مادّتنا هذه، أزمة مياه الحسكة، يجب البحث بشكلٍ جدّي عن مشاريع أكثر فاعلية بحيث تقلّل الاعتماد على محطّة مياه علوك، وبالوقت نفسه لا تضرّ بمناطق أخرى، وبمناسيب المياه الجوفية في باقي مناطق المحافظة.