«العصر الجليدي» في أوروبا يبدأ رسمياً...
فيديل قره باغي فيديل قره باغي

«العصر الجليدي» في أوروبا يبدأ رسمياً...

لعبت «رحمة الطبيعة» دورها بتأخير انكشاف المصائب التي صنعها قادة أوروبا بأيديهم، حيث تَصادَفَ أنْ كان الطقس أدفأ من الوسطي السنوي الفترة الماضية، مما ساعد أوروبا بتأخير استنزافها لمخزونها من الغاز، لكن الأمر لن يطول، فقد وصلت أوّل موجة من برد «الجنرال الأبيض»، في وقت يضرب فيه قادة أوروبا بأمن بلادهم القومي عرض الحائط، وينفقون على الحرب في أوكرانيا ويسعّرون إجراءاتهم العدائية، بينما تخلو جعبتهم سوى من فرض التقشف على شعوبهم؛ فالسلطات الألمانية تنصح مواطنيها بـتخزين الشموع و«ارتداء الملابس الدافئة كبديل مؤقت للتدفئة» واستخدام «مواقد المخيمات» لطبخ الطعام. وكتبت مراسلة «نيويورك تايمز» من برلين: «قد تبدو الحياة في بعض المدن الأوروبية قريباً على النحو التالي: انقطاعات بالكهرباء لتوفير الطاقة، انقطاعات في خدمة الهاتف المحمول والإنترنت، إغلاق المدارس أبوابها لنقص الحرارة والإضاءة، وحتى إشارات المرور قد تتعطل مؤقتاً». وكشفت «الغارديان» وجود وثيقة حكومية بريطانية تتحدث عن إمكانية تعطيل جميع القطاعات بما فيها النقل والغذاء والمياه والاتصالات والطاقة بشدة لمدة تصل إلى أسبوع. ونصف أسطول المفاعلات النووية الفرنسية يعاني من الأعطال وسط عدم استجابة الحكومة لعمّالها المضربين، بمثل عدم استجابة الحكومة البريطانية لمطالب الممرّضات المضربات رغم خطر تزايد الأمراض والموت في هذا الشتاء والشتاءات القادمة، حيث سيواجه الاتحاد الأوروبي نقص 27 مليار متر مكعب من الغاز في 2023 بحسب «الطاقة الدولية».

بلغ إجمالي استهلاك الاتحاد الأوروبي من الغاز عام 2021 الماضي 412 مليار متر مكعب. وزوّدته روسيا بنحو 155 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي في العام نفسه، أي قرابة 38% من إجمالي استهلاكه. وإذا أرادت استبدال كل الغاز الروسي في أوروبا فستحتاج سنوياً ما يعادل ثلث السوق العالمي اليوم بالكامل، وفقاً لمركز «بيرنشتاين» للأبحاث.

وأظهر تقرير حديث صادر عن الشبكة الأوروبية لمشغلي أنظمة نقل الطاقة أن إمدادات الكهرباء في فرنسا والسويد وفنلندا، من بين دول أخرى، معرضة لخطر الانقطاع.

شتاء ألمانيا

أصدر «مكتب الحماية المدنية والمساعدة في حالات الكوارث» الألماني تحذيراً قال فيه إنّ على المواطنين توقّع الأمور التالية في حالة انقطاع التيار الكهربائي: «سيكون الهاتف معطلاً، والتدفئة لا تعمل، ولا توجد مياه دافئة، والكمبيوتر معطلاً، وماكينة القهوة متوقفة، ولا يوجد ضوء». مضيفاً: «ستلاحظ قريباً مدى اعتمادك على الطاقة الكهربائية».

منذ اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير، تضاعف سعر الغاز في ألمانيا في بعض الأحيان، وزاد سعر الكهرباء بنسبة 25%، وارتفعت الأسعار في محطات الوقود إلى مستويات قياسية بأكثر من 2.20 يورو (2.31 دولار) للتر. ما يقرب من 50% من منازل ألمانيا تتدفّأ بالغاز الطبيعي و25% أخرى تستخدم زيت التدفئة، بينما يستخدم أقل من 6% الحطب.

واتخذت حكومة المستشار أولاف شولتز قراراً مثيراً للانقسام سياسياً، فبعد سنوات من محاربة الطاقة النووية بذرائع «بيئية» و«خضراء»، اضطرّت لإلغاء خطط إغلاق آخر ثلاثة مفاعلات نووية في البلاد هذا الشهر، وإطلاق محطات طاقة تعمل بالفحم على أمل تعويض خسارة الغاز الروسي.

وقامت شركة استطلاع للرأي YouGov لصالح وكالة الأنباء الألمانية بإجراء استطلاع أظهر أنه على الرغم من الطقس البارد، فإنه اعتباراً من نهاية نوفمبر، قام حوالي 68% من المستطلَعين بتدفئة منازلهم بنسبة أقل مقارنة بعام 2021، كما أنّ 10% من جميع الأسر الألمانية المستطلعة امتنعت امتناعاً مطلقاً عن أيّة تدفئة لمنازلها حتى نهاية تشرين الثاني (نوفمبر). وهذه نتائج أسوأ مما كان في الفترة نفسها من العام الماضي. وفي تفاصيل الأسباب قال 56% من المستطلَعين بأنهم تقشّفوا بالتدفئة لتوفير المال، و20% بسبب درجات حرارة في الهواء الطلق أدفأ من المعتاد لهذا الوقت من السنة، أمّا الذين قالوا إنّ سلوكهم كان بدافع المساهمة في «توفير الإمدادات في البلاد» فاقتصروا على 15% من المستَطلَعين. في حين قال 6% إنّ دافعهم كان «حماية المناخ عبر تسخين أقل».

يجدر بالذكر بأن مبيعات الحطب زادت في كل أنحاء ألمانيا، وأبلغت «جمعية الحطب الفيدرالية الألمانية» عن نقص في المادة، مما سيعني ارتفاع أسعاره أكثر وربما صعوبة تأمينه مع التزايد المحتمل للاعتماد عليه في الأيام والأشهر القادمة.

14850069681609959538

شتاء فرنسا

بدأت الحكومة الفرنسية الأسبوع الماضي بإصدار تعليمات للمسؤولين في جميع أنحاء البلاد بالتخطيط لانقطاع التيار الكهربائي المحتمل في أقرب وقت الشهر المقبل. أنشأت حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون نظام تنبيه على مستوى البلاد للإبلاغ عن أي انقطاع للتيار الكهربائي في وقت مبكر قبل ثلاثة أيام وذلك عبر ما يشبه نظام «الرسالة الذكيّة» لتنبيه الأشخاص على هواتفهم المحمولة عبر تطبيق خاص أسموه EcoWatt وحث المسؤولون الجميع على تنزيله. مع توقع انقطاع قد يصل إلى 4 ساعات بين الساعة 8 صباحاً و1 ظهراً، أو بين 6 و8 مساءً (بحسب ما نقلت نيويورك تايمز). ولم تصنّف الحكومة الفرنسية المدارس ضمن «أماكن الطوارئ» ذات الأولوية، بل سيتم إلغاء الدراسة وتعطيل الطلاب في تلك الصباحات التي يحدث فيها نقص الحرارة والضوء، كما لن يعمل الإنترنت أيضاً مما سيعطّل حتى التعليم عن بعد.

وحذّر كريستل هايدمان، الرئيس التنفيذي لشركة «أورانج»، أكبر مشغل اتصالات في فرنسا، الأسبوع الماضي من أن المكالمات الهاتفية الطارئة قد لا تكون ممكنة إذا فقدت شبكات الهاتف المحمول الكهرباء. وقالت الحكومة إنه لا يزال بإمكان الناس الاتصال برقم الطوارئ الأوروبي العام 112.

حتى القطارات الفرنسية يمكن أن تتوقف عن العمل لبضع ساعات في المناطق المتضررة، لأن الطاقة اللازمة لإشارات العمل سيتم إيقافها. وقالت الحكومة إنها ستحذّر السائقين لأجل «الحدّ من تحركاتهم قدر الإمكان» لأن شارات المرور قد تكون «غير صالحة للعمل».

ونصحت الحكومة الفنلندية أصحاب السيارات الكهربائية بعدم تسخين سياراتهم الموصولة بالكهرباء في الصباح المتجمد لتجنب إجهاد الشبكة، وإزالة الجليد والثلج المتراكم عليها ميكانيكيّاً.

وفي سويسرا، التي تعتمد منذ فترة طويلة على الطاقة النووية الفرنسية في فصول الشتاء، حثّت السلطات المواطنين على الاستعداد لانقطاعات تصل إلى عدة ساعات، وحثّت الناس على توفير ما يكفي من الحطب والمصابيح الكهربائية والبطاريات.

شتاء بريطانيا

حذّر مشغل الشبكة الوطنية في بريطانيا من احتمال انقطاع التيار الكهربائي من الساعة 4 مساءً حتى 7 مساءً إذا لم يكف الغاز المستخدم لإنتاج الكهرباء. فمن المعروف أنّ هذا الوقت يمثل في الحالة العادية من كلّ عام في بريطانيا ذروة الضغط على الطاقة شتاءً من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) إلى آذار (فبراير).

وبحسب التلغراف البريطانية بتاريخ 12/12/2022 طلبت شركة الكهرباء الفرنسية RTE من نظيرتها البريطانية أن تسمح لها بخفض صادراتها المجدولة إلى النصف من خلال أحد موصلاتها البينية بين البلدين الساعة 8 صباحاً و9 صباحاً من ذلك اليوم حيث واجهت ارتفاعاً في الطلب. هذا الحادث يعني بأنه من الممكن أن يتكرر مع زيادة برودة الشتاء أكثر، ولا سيّما أنّ فرنسا تشهد إضراباً لعمال محطات الطاقة النووية يساهم في إبطاء عمليات الصيانة. ويأتي ذلك أيضاً في الوقت الذي قامت فيه مشغلة الشبكة البريطانية بإيقاف محطتي طاقة تعملان بالفحم في شمال يوركشاير.

photo_2022-12-14_15-05-11

الأزمة تعرّي عيوب البنية التحتية السكنية في عدة بلدان أوروبية

قال تقرير لوكالة «يورونيوز»، نشر الإثنين 12 كانون الأول الجاري، إنه وفقاً «لمرصد الاتحاد الأوروبي للبناء» تم بناء معظم المباني السكنية في الاتحاد الأوروبي قبل إدخال معايير العزل الحراري الأولى في السبعينيّات، حيث لم يتم إدخال إجراءات كفاءة الطاقة هذه سوى بعد أزمة النفط التي سببتها الحرب والاضطرابات السياسية في الشرق الأوسط آنذاك.

بشكل عام، كلما ارتفعت حصة المباني السكنية الجديدة في البلد المعني، ارتفع أداء الطاقة الإجمالي لقطاعه السكني.

ووفقاً لأرقام عام 2014 في الاتحاد الأوروبي: 23% من المنازل يعود بناؤها لعام 1945، و26% في المائة إلى ما بين عامي 1945 و1969. وهذا يعني أن 49% من المنازل تم بناؤها قبل عام 1970. وتم بناء 23% فقط بعد عام 1990.

وأورد التقرير مقياساً لكفاءة العزل الحراري للمساكن مقيساً بعدد الدرجات المئوية التي يفقدها المنزل بعد 3 ساعات بلا تدفئة. حيث تصدّرت منازل المملكة المتحدة قائمة الأسوأ عزلاً في أوروبا (تفقد 3 درجات بعد 3 ساعات) وقال تقرير للمعهد الملكي للمهندسين المعماريين البريطانيين (RIBA): «نسبة كبيرة جداً من هذه المباني لم تجرى على جدرانها أية تعديلات منذ إنشائها، مما يعني أنها لا تحتوي على أيّة مواد عازلة»!

وفي قائمة الأسوأ بعد بريطانيا تأتي بلجيكا (2.9 درجة)، ثم فرنسا (2.5 درجة)، وهولندا (2.4 درجة)، وإسبانيا (2.2 درجة). وسجّل فقدان الحرارة في هذه البلدان الخمسة أعلى من متوسط الخسارة (1.8 درجة) لجميع البلدان التي تم تقييمها.

ومن البلدان الأفضل عزلاً حرارياً: السويد والدنمارك والنمسا بمتوسط 1.2 درجة. وكذلك إيطاليا بقيمة 1.5 درجة.

إهمال معظم بلدان أوروبا للتحديث في بنيتها التحتية السكنية على مدى عقود يمكن لنا أن نقرأه كأحد عواقب اعتمادها الاستعماري المستهتر على نهب وتبذير الطاقة الرخيصة من الأطراف وأشباهها، ولا سيّما الغاز الروسي، كما أنّ هذا الإهمال له علاقة أيضاً بالمنطق الرأسمالي الربحي قصير النظر الذي تفاقم بعد سيادة النموذج الليبرالي الجديد.

والخلاصة أنّه لا يكاد يكون هناك عامل شتائي يسيء لنوعية حياة الإنسان إلا ويبدو أنها تجتمع معاً في أزمة الشتاء الأوروبي 2022 (حتى أنّ هناك أزمة نقص أدوية أساسية كخافضات الحرارة وبعض الأدوية القلبية). وهذا لم نتكلم بعد عن شتاءات الأعوام القادمة الأسوأ بلا شك طالما تصرّ القيادات السياسية الأوروبية على السير خلف واشنطن والناتو بإلقاء بلادها وشعوبها إلى نار الحروب أو ثلوج الشتاء.

 

آخر تعديل على الأربعاء, 14 كانون1/ديسمبر 2022 14:07