راهنية تشى غيفارا وأوضاع الشعوب العربية «الجزء الثاني»
مسعد عربيد مسعد عربيد

راهنية تشى غيفارا وأوضاع الشعوب العربية «الجزء الثاني»

لم يملك غيفارا الإجابة على العديد من الأسئلة. وليس لنا أن نتوقع ذلك. والحقيقة أننا ما زلنا حتى اللحظة نبحث عن بعضها ولن نصل إليها إلا من خلال التجربة والممارسة والإفادة من أخطائها وعبرها. إلاّ أن غيفارا ساهم في إنارة الكثير منها وفي رسم الأطر التي يتم البحث عن الإجابات من خلالها.

(2) السمات العامة لفكر وإرث تشى غيفارا

الركائز الفكرية لغيفارا

 

ويجدر بنا هنا أن نتوقف، ولو استطرادًا، لعرض سريع لأهم محطات المسيرة النضالية لتشى غيفارا، كي يتلمس القارئ الكم الثقيل من المهام والمسؤوليات التي أخذها غيفارا على عاتقه والدور الذي لعبه في غضون السنوات القليلة قبل استشهاده. فبعد انخراطه في الثورة الكوبية عام 1956 تحت قيادة فيدل كاسترو وانتصار هذه الثورة عام 1959، ساهم غيفارا بكل ما أوتي من طاقة في تكوين المجتمع الجديد ومرحلة بناء الاشتراكية وإشكاليات التحول الاشتراكي في كوبا، وتوفير الاحتياجات الأساسية والإنسانية ومهام التنمية الاقتصادية والاجتماعية للشعب الكوبي. وقد تولى في هذه الأثناء العديد من المناصب الحزبية والحكومية ومثّل كوبا في المحافل الدولية، وله يعود الفضل الكبير في نسج علاقات التعاون والصداقة مع البلدان الاشتراكية ودول العالم الثالث. وبعد أن غادر كوبا عام 1965، خاض حرب العصابات في حملتي الكونغو (1965) وبوليفيا (1966 – 1967). غير أن هذه المسؤوليات لم تُقعده عن خوض العديد من المعارك السياسية والفكرية، نذكر منها صدامه مع النمط الاقتصادي والإنتاجي السوفييتي، ومساهماته الاقتصادية في مجال التنمية والبناء الاشتراكي، وأطروحاته في حرب الغوّار ونظرية البؤرة، وخلق الإنسان الجديد، العمل الطوعي، الثقافة والتثقيف الذاتي، والأخلاقية الشيوعية وغيرها.

على الرغم من تعدد ساحات النضال والأبعاد النظرية والعملية لفكر غيفارا، فإن المسؤولية تملي ضرورة العودة إلى الركائز الأساسية لهذا الفكر قبل الولوج في التعريف بسماته. ويمكننا القول بأن فكره ومسيرته النضالية يتمحوران حول الركائز التالية:

1) رفض واقع الشعوب الفقيرة والمضطَهَدة في أميركا اللاتينية والعالم الثالث والعالم بأسره، واقع التخلف والظلم والفقر والجوع والمرض، وضرورة الثورة من أجل تغيير هذا الواقع لتحقيق مصالح هذه الشعوب وتنميتها والإيفاء بحاجاتها المادية والروحية.

2) يتطلب تشخيص هذا الواقع تحديد القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المسؤولة عنه. وقد حددها غيفارا بوضوح في الرأسمالية والإمبريالية، بزعامة الولايات المتحدة كعدو الإنسانية الرئيسي، مما يعني أن تغيير هذا الواقع يستلزم محاربة هذا العدو كونه السبب الجذري في مشاكل الشعوب. ولكن غيفارا لم يتجاهل العملاء المحليين والمرتبطين طبقيًا ومصلحيًا بالإمبريالية الأميركية بل خاض ضدهم ومن أجل إسقاطهم نضالًا دؤوبا دون هوادة.

3) اعتنق غيفارا أسلوب الكفاح المسلح وحرب الغوار (حرب العصابات) في مقارعة الإمبريالية اليانكية، كما كان يسميها، وعملائها المحليين، ولكنه وبالقدر ذاته أكد على حق الشعوب بالكفاح بكافة الوسائل المتاحة للمقاومة الشعبية وأشكالها المتعددة.

4) أفضت هذه الرؤية بغيفارا إلى البحث عن الحلول والبدائل والتي تمثلت في بناء الاشتراكية، كسبيل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، ما أملى عليه التصدي لإشكاليات التحول الاشتراكي، وقدّم في هذا المضمار مساهمات كبيرة منها خطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتكوين الوعي النقدّي والثوري والأخلاقية الثورية والشيوعية وخلق الإنسان والمجتمع الجديدين وغيرها.

أما فكر غيفارا وإرثه ومجمل تجربته، فقد تميّز بسمات عديدة، انتقينا أهمها في الفقرات التالية. والحقيقة أن كلًا من هذه السمات جديرة بدراسة مستفيضة، إلا أننا سنكتفي بهذا العرض الموجز:

1) كان غيفارا رجل عصره بامتياز، وبهذا نعني أنه كان نتاجًا للظروف الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية لتلك المرحلة الفريدة: مرحلة ما بعد الحرب الإمبريالية الثانية (1939 – 1945) والنصف الثاني من القرن العشرين. وقد اعتبر غيفارا من خلال قراءته للواقع أن المهمة الملحة والمركزية هي الإيفاء بالاحتياجات الاجتماعية والإنسانية، المادية والروحية، لشعوب أميركا اللاتينية والعالم الثالث، والتزم بفكره ونضاله بالفقراء والطبقات الشعبية في تلك المجتمعات.[1]

2) الرؤية الشمولية المتكاملة: لا يتسنى فهم أفكار تشى غيفارا ورسالته من خلال عبارات أو أفعال معزولة ومنفصلة عن بعضها البعض، بل كجوانب متعددة لكائن عضوي واحد، تتعدد مفاهيمه وساحات نضالة ولكنها تظل متناغمة متراصة فيما بينها ومصوبة نحو تحقيق أهدافها.

3) التصاقة بقضايا الفقراء ورفض الظلم أينما كان: لعل من أهم مساهمات غيفارا في الفكر الثوري والتراث الإنساني هو انحيازه التام لقضايا الفقراء ودفاعه عن مصالحهم. وقد تميز موقفه هذا، قولًا وفعلًا، بإنسانية وأممية عميقة وبقناعة بأن معاناة الإنسان أينما كان هي قضية الإنسانية بأسرها. وتشكل هذه السمة النبيلة الركيزة الأساسية في الوعي والممارسة الثورية والاممية لأي مناضل.

التزم غيفارا، منذ بواكير وعيه، بالفقراء وحبه لهم وإيمانه بقضاياهم وضرورة الإيفاء باحتياجاتهم، فاحتلت هذه القضايا موقعًا مركزيًا في فكره السياسي والاجتماعي، وسبق التزامه بهذه القضايا أي نشاط سياسي له وشكّل لبنة أساسيةً في تكوينة السياسي والثوري.

لم يكن غيفارا فقيرًا ولا جائعًا، فقد توفرت له فرصة دراسة الطب وسبل العيش الكريم، إلاّ أنه فهم جيدًا، كما لم يفهم كثيرون، بؤس أولئك الذين لا يملكون شيئًا ولا حتى لقمة العيش. وقد تكوّن هذا الوعي لدى غيفارا خلال رحلاته التي جال خلالها القارة الأميركية اللاتينية والتي عمّقت هذا الشعور من خلال مشاهدته لمآسي الجوع والفقر والمرض، فأضحت رسالته وغايته في الحياة منذ تلك اللحظة “مساعدة هؤلاء الفقراء والجياع”.[2] وقد لازمه هذا الشعور طيلة حياته وكان من أهم ما ميّزه كثائر. فلا عجب إذن أن نرى حتى يومنا هذا أن مثال غيفارا ونضاله حاضران دومًا في نضال الفقراء والعمّال والفلاحين رغم كل محاولات التخريب والتشويه.

4) الرؤية التأسيسية: لقد كتب تشى غيفارا للناس ومستقبلهم برؤية ثاقبة وكأنه يخط بقلم المستقبل لمرحلة قادمة، لأجيال جديدة وإنسان جديد. وبهذا المعنى، بوسعنا أن نصف الكثير من كتاباته ب”التأسيسية” أي التأسيس لمرحلة قادمة.

وقد جاء التاريخ ليؤكد أن غيفارا كان مصيبًا وسبّاقًا ونافذًا قي تحليله وقراءته للأوضاع في عصره واستشرافه للمستقبل على ضوء هذه القراءة. والأمثلة على هذا كثيرة، وحسبي هنا أن أذكر:

أ) أنه نبّه إلى نظام التمييز العنصري الأرباهايد في جنوب أفريقيا عام 1962، وبهذا يكون قد سبق “الغرب الديمقراطي” بثلاثة عقود.

ب) حذّر غيفارا من مغبة ومخاطر المؤسسات المالية العالمية (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي، منظمة التجارة العالمية) كأداوت للرأسمالية قرابة ثلاثين عامًا قبل أن تقوم هذه المؤسسات من خلال سياساتها المالية بتدمير اقتصادات العديد من البلدان وتوريطها بديون هائلة لا تقوى على تسديدها وستعاني من تبعاتها لسنوات طويلة.

ج) حذر من النمط الاقتصادي السوفييتي ومن استخدام السوفييت لفائض القيمة في التخطيط الاقتصادي وآثارة السلبية والمدمرة على المجتمع، وقد أصبحت هذه المسألة اليوم مألوفة وعلى لسان الكثير من المحللين الاقتصاديين. (انظر لاحقًا)

5) تحديد العدو… الوضوح والدقة والجرأة: اتسم غيفارا بدقته في تحديد العدو في سياق مرحلته وكفاح الشعوب المقهورة ضد الرأسمالية والإمبريالية الأميركية. وقد كان تحديده للعدو بمثل هذا الوضوح والدقة، سببًا في إدراجه مبكرًا على قائمة اغتيال أعداء الولايات المتحدة والمطلوبين لمخابراتها.

 

ولكن لماذا الرأسمالية والإمبريالية؟

لأن الرأسمالية بمصالحها وجشعها وانفلاتها في تحقيق الأرباح القصوى، تتنافى مع مصالح الإنسانية أينما كانت ولا توفر أي مشترك يمكن له أن يجمع البشرية على أرضية واحدة ومشتركة.

□ هذا العداء للولايات المتحدة ليس أمرًا مستغربًا في سياق المرحلة التي عاش فيها تشى غيفارا وخلال سنوات طفولته ومراهقته والتي شهدت هيمنة الشركات الأميركية على اقتصادات بلدان أميركا اللاتينية واستغلال ثروات شعوبها، ناهيك عن التدخل السافر في سيادتها وشؤونها السياسية. وحيث لامَ غيفارا الإمبريالية الأميركية والرأسمالية وحمّلها مسؤولية هذه الآفات الاجتماعية والاقتصادية، فقد تبنى العقيدة الشيوعية والنضال من أجل محو الرأسمالية.

□ رفض غيفارا المقولة التي تدّعي أن التخلف في بلدان العالم الثالث هو طبيعة المرحلة التي تمرّ بها هذه البلدان والادّعاء بأنه الطور الذي يسبق النمو الاقتصادي كما تروّج الرأسمالية، بل اعتقد برؤية ثاقبة أن السبب الجذري في تخلف هذه الدول هو النهب الإمبريالي لثرواتها المادية والبشرية، وهو ما أتاح للدول المتطورة أن تبني تقدمها ورفاها. بكلمات أخرى، كان غيفارا يرى أن رفاه شعوب الدول الاستعمارية يقوم على حساب الشعوب الفقيرة ونهب مواردها.

□ يميل كثير من المحللين إلى الاعتقاد بأن عداء غيفارا للولايات المتحدة والإمبريالية الأميركية واعتبارها “العدو الرئيسي للإنسانية”، قاده إلى معاداة كل ما تحبه أو تطالب به أميركا. إلاّ أن مثل هذا التحليل يظل تبسيطًا ساذجًا يغلّب العوامل الشخصية ويتنكر للركائز الفكرية والمفاهيمية لتشى غيفارا. فمعاداته للإمبريالية الأميركية كانت تقوم أولًا وأخيرًا على تناقض المصالح: مصالح الشعوب في الحرية والتنمية والعيش الكريم من جهة، وفي الجهة المناقضة مصالح الرأسمالية والإمبريالية القائمة على نهب ثروات هذه الشعوب.

□ يرى غيفارا أن اتخاذ موقف حاسم من الصراع يقوم على فهم حقيقته (الصراع) وبدون هذا الفهم لا يتسنى تحديد موقف واضح وجذري منه. وعليه، فإن مَنْ لا يفهم الصراع، أو مَن لا يريد أن يفهمه، فهو بالضرورة عاجز عن حسمه.

□ بناءً على هذا الفهم، أكد غيفارا في كل أطروحاته على عدم إمكانية التصالح أو المساومة مع الإمبريالية والرأسمالية بسبب طبيعة التناقض التناحري بينها وبين شعوب العالم الثالث. فالغرب الرأسمالي لا يفهم لغة الحوار، وإن حاور فهو يحاور عن خبث وتخطيط مسبق، كما أنه لا يتحاور إلا إذا وجد نفسه في حالة ضعف ووهن أو إذا واجه عدوًا قويًا أو كلاهما.

□ تحديد العدو بدقة كان يعني أيضًا أن المواجهة معه مستمرة حتى النهاية وحتى حسم الصراع ومن هنا جاءت مقولته “حتى النصر دائما”، وشعارات الثورة الكوبية التي أطلقها الزعيم الكوبي فيدل كاسترو: الوطن أو الموت، سننتصر! 

 6) تحديد العدو والوعي الثوري: على ضوء التحديد والفهم الدقيقين لطبيعة الصراع وأطرافه ومكونات معسكر الأعداء، ركّز غيفارا على أهمية ودور الوعي النقدي والثوري. فالوعي الثوري يصبح البوصلة التي تحدد اتجاه النضال والحراك والمقاومة، وهو الذي يحمي الثورة من الردة والتراجع ومن الامتطاء الانتهازي والتلاعب والتسلق والغدر.

7) المقاومة هي ركيزة النضال الأساسية: لم يكتف غيفارا بتحديده الدقيق للعدو، بل دعى بدون كلل ومن كافة المنابر، إلى مقاومة هذا العدو في كل مكان. من هنا، وفي هذا السياق، جاءت صرخته لمساندة شعب فيتنام في حربه ضد الإمبريالية الأميركية ولخلق العديد من “الفيتنامات” لمقارعتها.

8) إنسجام النظرية والممارسة: كثيرًا ما تبدو الكتابات الثورية والساعية إلى التغيير طوباوية أو أنها تفترق عن الواقع بمسافات، غير أن كتابات غيفارا تميزت بالالتصاق بالواقع والنضال من خلاله. ومن هنا نرى أن غيفارا توصل إلى نظريته وبنى مفاهيمه عبر تجربته وممارسته النضالية، واستمر في تطويرها بالقدر الممكن على ضوء حصيلة ودروس هذه التجربة. وقد جاءت أفكاره جامعة مترابطة مع ممارسته بروابط وثيقة تشكّل وحدة عضوية بين النظرية والممارسة: نظرية تشخص الواقع وتحلله، وانغماس عملي في النضال من أجل تكوين الواقع الجديد. وقد عُرف عن غيفارا اهتمامه البالغ بتحليل الموقف النظري، ولكنه حرص دومًا على الجانب العملي والتطبيقي منه: أي تحديد الموقف النظري بدقة من أجل الاستفادة من ذلك في تحديد موقعه ودوره في العملية النضالية، وهو القائل “نحن من أولئك الذين يضعون أرواحهم على راحات أيديهم، من أجل البرهنة على حقائقهم”. بهذا المعنى، فإن فكر غيفارا يشكّل تربة فكرية خصبة وموقعًا نضاليًا في آن واحد ليبني في المحصلة فكرًا نقديًا وثوريًا لتحرير الإنسان والمجتمع وخلق ثقافة جديدة و”إنسان جديد”. وهذه سمة فريدة للمفكرين الثوريين تنطوي على عظمة وديمومة رسالتهم الثورية التي طالما قضّت مضاجع أصحاب السلطة والهيمنة. فالمفكرون الثوريون لا يسطرون روائع الثورة على الواقع القائم وبناء مستقبل أفضل، دون أن يشكلوا تهديدًا للقوى المهيمنة ومصالحها. لهذا السبب ذاته، وبسبب فكره الثوري، وقع غيفارا منذ مرحلة مبكرة ضمن دائرة اهتمام الاستخبارات الإمبريالية الأميركية منذ عام 1954 أثناء نشاطه في غواتيمالا وقبل انخراطه في الكفاح المسلح والثورة الكوبية، واستمرت ملاحقته حتى استشهاده.

9) تشى غيفارا… الثائر العملي: لو حكمنا على غيفارا وفق قول خوسيه مارتي[3] ب”أن الرجل العملي هو الوحيد الذي يتحول حلمه اليوم إلى قانون الغد”، لأدركنا كيف توجب على غيفارا أن يكون عمليًا وأن يجمع بين النظرية والممارسة، بين الكلمة والبندقية، وهو ما حدا به إلى رسم استراتيجية ثورية تحدد المهام الملحة والآنية ولكنها تظل في رؤيتها بعيدة المدى تتجاوز الآني لترتبط مباشرة بالواقع القائم ولتبقى مصوبة دائماّ نحو بوصلة الشعوب الفقيرة واحتياجاتها ومصالحها.

على ضوء ما تقدم، يمكننا القول بأن “غيفارا العملي” حقق الوحدة والإنسجام بين أفكاره وممارسته الثورية، وجاء معبرًا عن، ومتناغمًا مع، الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية لشعوب أميركا اللاتينية والعالم الثالث وكافة فقراء ومضطهدي العالم.

10) الوعي الثوري الجديد

أ) معاني الوعي الثوري: لم يؤمن تشى بأن هناك طبيعة بشرية محددة مسبقًا علينا أن نقبلها كما هي. على العكس من ذلك، كان يرى أن المهمة الأساسية تكمن في تطوير العلاقات الإنسانية وسبل تحولها وتحسينها وتطويرها من أجل خلق الوعي والإنسان الجديد. كان يرى أن إنسان “القرن الحادي والعشرين سوف يكون نحن أنفسنا”. وتبدأ هذه العملية في بداية الكفاح، إذ أننا “في موقف مقاتلينا نلمح رجل المستقبل (…) إن إيجاد صيغة للحياة اليومية لاستمرارية واستدامة هذا الموقف البطولي هو واحدة من مهامنا الرئيسية من وجهة النظر الأيديولوجية”.

وبشأن التحول الاشتراكي يقول: “من أجل بناء الشيوعية، وبالتوازن مع توفير الأساس المادي، علينا أن نبني الإنسان الجديد (…) ويجب أن يتحول المجتمع كله إلى مدرسة كبيرة عملاقة”. وفي سبيل المضي قدمًا في تحقيق هذه الأهداف الطموحة، لا ينسى غيفارا أوجه التقصير الهائلة والأخطاء والتشوهات الناتجة عن العملية نفسها ومن خلالها، والتي انتقدها بلا هوادة ودون كلل أو غموض. في هذا المجال، كما في غيره، نرى الكثير من العمق في معانيه وصياغة المفاهيم وتقديم التحليل في الوقت المناسب.

ب) جدلية الوعي والممارسة والعمل: ربط تشى الوعي بالعمل البشري (والعمل الطوعي أيضًا)، وبهذا منحه معانٍ جديدة أكثر عمقًا وشموليةً. وفي صيرورة العمل وجدليته مع الوعي واشتباك كلاهما مع الواقع يولد الإنسان الجديد.

كان غيفارا يدرك أن المرحلة الراهنة المثقلة بالكثير من المسؤوليات والتحديات والتعقيدات، لن تستطيع تحقيق كافة المهام ولا أن تقلب المفاهيم السائدة أو تخلق الإنسان الجديد. بل ما كان يقصده هو التمهيد لفكرة خلق الوعي الثوري كي تدخل مجال العمل ثم اتحادها معه واشتباكها مع الإنتاج والممارسة والتجربة بغية تراكم التجارب وصولًا إلى الحالة الأرقى، الوعي الأرقى. ويتضمن هذا، في ما يتضمنه، مفهومًا مركزيًا من مفاهيم غيفارا وهي أن الممارسة هي التي تخلق الوعي الجديد. فالواقع يستدعي الحاجة إلى خلق وعي جديد للنضال من أجل تجسيد الأهداف وتحقيقها. بكلمات أخرى، آمن غيفارا بأن الممارسة النضالية تخلق واقعًا ثوريًا وحالة نضالية تساهم في خلق الوعي وخلق الثقافة الجديدة.

ج) جدلية الوعي والإنتاج: رأى غيفارا أن خلق الوعي الثوري الجديد يرتبط جدليًا بعملية الإنتاج والعلاقات الإنتاجية (الطبقية)، ومن هنا نظر إلى العمل ك”واجب اجتماعي“. لقد رفض غيفارا، المفاهيم التقليدية في العمل – معدل الأجور، الحوافز المادية والمكافأة المالية للعمال، تعويض العاطلين عن العمل وغيرها من الظواهر التي شاهدها في زياراته للاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية – وعمل على ترسيخ مفهوم “العمل كواجب اجتماعي” ومحاربة سلعنة العمل. كل هذا اقتضى، حسب غيفارا، تغيير العلاقات الطبقية والاجتماعية من أجل خلق ثقافة جديدة حيال عملية الإنتاج قوامها وشرطها الأساسي أن يتوقف الإنسان عن كونه سلعة، وإقامة نظام يوفر للإنسان القدرة على تأدية عمله كإيفاء لواجبه الاجتماعي. وقد حاجج بدأب مؤكدًا على أن التحرر الكامل للإنسان يتحقق عندما يصبح العمل واجبًا اجتماعيًا يقوم به الفرد برضى تام وحين يدرك أن مهمته الأخلاقية تملي عليه أن يتفانى في العمل من أجل خير وتقدم المجتمع، وبأن المجتمع بالمقابل، سوف يعتني بالعامل وأسرته واحتياجاتهم.[4] وقد دعا تشي في مسعاه هذا إلى استخدام العديد من الآليات، إلا أنه رأى في”العمل الطوعي” الوسيلة الفضلى لتحقيق ذلك.

د) تكوين الوعي النقدي والثقافة الجديدة: رأى غيفارا أن الأفكار والمفاهيم السامية والجديدة هي حجر الأساس لأية ثقافة جديدة ووعي نقدي جديد. ولكن على هذه الأفكار والثقافة الجديدة أن تظل ملتصقة بواقع الإنسان وتعبر عنه وتعمل لخدمة مصالحة والإيفاء بحاجاته، وأن تبقى (الأفكار) في حركة مستمرة ومواكبة لحركة التاريخ والمجتمع ومتفاعلة معهما فاعلة فيهما في تواصل لا ينقطع.

ه) الوعي والأجيال القادمة: التفت غيفارا، ربما أكثر من غيره، إلى أن الأجيال الجديدة هي شرط بقاء الثورة وضمانة استمرارها. كما أنه أدرك من خلال قراءته لتاريخ الثورات أن اهمال الأجيال الجديد كناقلة واعية للثورة وضرورة لاستمرارها سيؤدي إلى هدرها وضياعها هباءً واختفاء إرثها. هذا الفهم للوعي وضرورته ووظيفته في صنع الثورة واستمرارها، هو أحد أسرار استمرارية غيفارا ذاته وديمومة رمزيته وإرثه.

 

11) الأخلاقية الثورية… الشيوعية… والاغتراب

تنطلق الأخلاقية الثورية، كما رآها غيفارا، من ضرورة اجتماعية ومن طموحات وآمال الجماهير، ومن إرادة لخلق واقع جديد يتناقض مع الواقع القائم وتعمل على تقويضه من أجل خلق مجتمع جديد. بعبارة أخرى، فان الأخلاقية الثورية تشمل نسقًا من الطموحات والآمال التي تحرض على الواقع القائم، وبهذه الوسيلة تحث القوى الاجتماعية والسياسية – التي تشكل الرافعة للتغيير والحاملة لمشروعه – على النضال من أجل تغيير الأوضاع القائمة. من هنا، فان الأخلاقية الثورية ليست طوباوية ولا هي بعيدة عن الواقع أو نفيًا له، كما يوحي منظرو البرجوازية، بل هي وسيلة لتوحيد قوى الطبقات المستغَلة على أرضية مشتركة وموحدة من أجل دفعها إلى الأمام. وفي هذا كله، فهي نتيجة للظروف الاجتماعية – الاقتصادية والتطور التكنولوجي والثقافي والحضاري للمجتمع.

وقياسًا على هذه المفاهيم، لم يكن غيفارا مجرد ثوري أو منظر للاشتراكية، بل كان قدوة أخلاقية وهو ما لا يقل أهمية. وفي التأكيد على هذا، يقول فيديل كاسترو “ان الاشتراكية دون أخلاق لا معنى لها”. في هذا المجال أيضًا، عمل غيفارا دون كلل ان يضع أقواله موضع التنفيذ والممارسة، وأن يحقق التناغم والانسجام بين أفكاره السياسية والاقتصادية والعسكرية على ضوء فلسفته وأخلاقيته الشيوعية عبر سنوات حياته القصيرة. وهنا تكمن أهمية هذه الأخلاقية الثورية والتي شكّلت مساهمة كبيرة وإثراءً للنظرية الماركسية والتراث الثوري الإنساني بشكل عام.

12) الوعي والتثقيف الذاتي: لم يتوخَّ تشى غيفارا في أعماله وكتاباته أن يتوقف عند حدود التحليل أو الموقف السياسي، وإنما حرص على أن يقدم نموذجًا للسلوك الإنساني والمعرفي والفكري، كما حرص على خلق وعي نقدي ثوري تحليلي قادر على مواجهة التحديات المقبلة والصراعات التي ستتخذ أبعادًا وأوجهة متعددة وجديدة. وتعبيرًا عن التزامه الفكري والعملي، ربط غيفارا الوعي والتثقيف الذاتي بالتنمية الفكرية والتطور السياسي وبذل جهودًا كبيرة في صياغة المفاهيم النظرية في خضمّ نشاطاته ومسؤولياته الكثيرة والمتعددة. وقد كان السعي الحثيث إلى المعرفة والبحث والدراسة والتثقيف الذاتي الصارم الذي اتّبعه غيفارا منذ أن كان يافعًا، هو العامل الرئيسي الذي حكم نشاطه وساهم في صقل أفكاره وسلوكه الثوري والإنساني. وقد عُرف عنه شغفه بالقراءة وحبه للكتب حتى في أشد اللحظات صعوبة وخطرًا على حياته. أما في مجال تثقيف الفرد، فقد دعا غيفارا إلى ما سمّاه “التثقيف الذاتي المنظم“، وهي عملية تتخذ مسارين متزامنيين:

1) مسار يقوم فيه المجتمع بالتثقيف والتربية على نحو مباشر وغير مباشر؛[5]

2) والمسار الآخر يتمثل بما يقوم به الفرد مساهمًا في عملية تكوين ذاته ووعيه عن طريق التثقيف الذاتي.

13) “ديمومة تشى”: تنتمي أفكار غيفارا من حيث الجوهر إلى الأفكار التي تتسم بقدرتها على مقاومة عوامل التقادم والهرم، لذا ظلت حية نابضة حتى يومنا هذا. ولعلّ مرد ذلك يعود إلى انهماكها العميق بهموم الإنسان من خلال التمسك بالمثل العليا في العدالة والمساواة بين البشر، وبهذا تستطيع أن تنفذ إلى أعماق النفس والعقل البشريين، وأن تدخل التاريخ من بواباته الكبيرة كأحد المفاتيح الرئيسية في حاضر الإنسان ومستقبله. وفي هذا ضمانه حيويتها وقدرتها اللامحدودة على التجدد.

تكمن ديمومة تشى غيفارا في الحضور الدائم لأفكاره وقدوته لأنها تعبر عن احتياجات الشعوب، وهذه الديمومة تعنى أن غيفارا، وما يمثله من فكر ومشروع وقدوة ورمزية، شيء حي وليس مجرد “شيء من الماضي”. بعبارة أخرى، إن ديمومة تشى هي عمل ونضال مستمر من أجل قضايا الساعة، وإن الحفاظ عليها يكون عبر استمرار النضال والمقاومة التي أراد أن يجسدها أثناء حياته كما في لحظة استشهاده.

هوامش:

[1] للاستفاضة، أنظر دراسة مسعد عربيد “الذاتي والموضوعي في تكوين إرنستو تشى غيفارا”، المنشورة في موقعي “كنعان” و”الحوار المتمدن”

 http://kanaanonline.org/ebulletin-ar

http://www.ahewar.org

[2] في الرحلة الاولى كان غيفارا قد بلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا وكان حينها طالبًا في كلية الطب، والرحلة الثانية: شرع بها غيفارا بعامين بعد رحلته الاولى بصحبة صديقه ألبرتو غرانادو، أما الرحلة الثالثة والاخيرة فقد قام بها تشى وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وهي الرحلة التي وسعت آفاقه وخبراته الشخصية والفكرية والنفسية وسارعت في إنضاج تطوره الثوري والسياسي والايديولوجي. كان لهذه الرحلة، الاخيرة قبل أن يلتحق بالثوار الكوبيين في تموز (يوليو) 1955)، الفضل الكبير في صقل شخصية غيفارا وتكوينة الثوري.

[3] يُعتبر Jose Marti البطل الوطني لكوبا. وُلد في هافانا (28 يناير 1853) واستشهد في 19 مايو 1895 في معركة ضد الاستعمار الإسباني. كان ثائرًا وكاتبًا وفيلسوفًا وشاعرًا، ذا نتاج ثوري وفلسفي وأدبي كبير.

[4] كان هذا تمامًا ما قاله غيفارا في رسالة الاستقالة التي قدمها لفيدل كاسترو قبل التوجه الى الكونغو (1965)، حيث ذكر في تلك الرسالة أنه ليس قلقًا على أسرته لأنه يعلم أن الدولة ستعتني بهم.

[5] من أجل خلق الإنسان الجديد، عملت الثورة الكوبية على محو الأمية ومنح جميع أفراد المجتمع التعليم المجاني وغيرها من الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية المجانية الشاملة. ولم يكن قد مضى عامان على انتصار الثورة الكوبية حين أعلنت الحكومة الثورية “الحملة الوطنية لمحو الأمية” Campaña Nacional de Alfabetización en Cuba والتي بدأت يوم الأول من يناير 1961 وانتهت في 22 ديسمبر من العام ذاته وتعتبر بحق أكبر حملة منظمة لمحو الأمية في العالم.

 

المصدر: مجلة كنعان