مانديلا يرحل..  و«الأبارتهايد» الاقتصادي مستمر
مصطفى اللباد مصطفى اللباد

مانديلا يرحل.. و«الأبارتهايد» الاقتصادي مستمر

احتفت وسائل الإعلام بذكرى العظيم نلسون مانديلا وتجربته النضالية عند ذيوع خبر وفاته قبل أيام قليلة، وهو أمر طبيعي نظراً للمكانة التاريخية للرجل الذي جسد النضال ضد الفصل العنصري المشين في جنوب أفريقيا وانتصر عليه في النهاية.

 

ومع الاحتفالات المفهومة والمبررة فقد تناسى الجميع أن جنوب أفريقيا تحررت بالفعل من الأبارتهايد العرقي، ولكنها ما زالت مقيدة في أغلال الأبارتهايد الاقتصادي والاجتماعي، ومثالهما الأبرز تلك الفجوة الهائلة بين الأغنياء والفقراء من مواطنيها. لا ينتقص ذلك من حجم الإنجاز التاريخي لنلسون مانديلا، ولكن تسليم حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» وقياداته، ابتداء من نلسون مانديلا ومروراً بثامبو مبيكي وانتهاء بجاكوب زوما، بميكانيزمات السيطرة الاجتماعية والاقتصادية القائمة من زمن الفصل العنصري حتى الآن، ربما كان مسهلاً جداً لانتقال السلطة السياسية من البيض إلى الأغلبية السوداء بعد ضمان بقاء السلطة الاقتصادية على حالها.

«
المؤتمر الأفريقي» والسياسة الاقتصادية

حققت جنوب أفريقيا الطفرة الاقتصادية في الستينيات من القرن الماضي، ولكنها طفرة خدمت البيض والأغنياء فقط، وهو ما انعكس على مستويات التعليم والدخول واستمر مختلاً حتى الآن. ففي العام 1990 أفرجت سلطات الفصل العنصري عن نلسون مانديلا، ورفعت الحظر عن «حزب المؤتمر الأفريقي» وغيره من المنظمات السياسية المعارضة، ورفعت تدريجيا قوانين الفصل العنصري من التشريع، حتى وصلنا إلى انتخابات 2004 التي فاز فيها الحزب بالأغلبية. كما انتخب نلسون مانديلا كأول رئيس أسود للبلاد، وحصل في العام ذاته مع فريدريك ولهيلم دي كليرك الرئيس الأبيض السابق على جائزة نوبل للسلام. وفي العام 1999 انتخب ثامبو مبيكي خلفاً لمانديلا، وهو الذي كرس الانتقال من التوجه اليساري لحزب المؤتمر الأفريقي إلى الليبرالية المتطرفة في الاقتصاد. خلقت هذه السياسة طبقة وسطى سوداء محدودة، ولكنها فاقمت من المشاكل الاجتماعية في البلاد التي لم تتغير فعليا من عصر الأبارتهايد إلى عصر النظام الجديد. ربح مبيكي الانتخابات مرة أخرى عام 2004، إلا أنه استقال العام 2008 اثر اتهامات بالتدخل في القضاء ضد خصمه في الحزب جاكوب زوما. وربح الأخير انتخابات العام 2009 الرئاسية، وما زال في السلطة حتى الآن.

مانديلا في إطار تاريخي

أعاد مانديلا المناضل التاريخي الصلب من أجل حقوق الإنسان التذكير ببديهة لامعة أنهت نظام الفصل العنصري: رجل واحد... صوت واحد. خرج مانديلا من محبسه بعد سبعة وعشرين عاماً مسكوناً بهاجس التغيير وليس الانتقام. غفر مانديلا ولم ينس، ومثل مصدر إلهام لكثيرين حول العالم في التمسك الصلب والنبيل بالقضايا العادلة. مانديلا الملوح دوماً بقبضته اليمنى والراقص على الأنغام الأفريقية فوق أرض أجداده لم يكن رئيساً اعتيادياً لبلد مغمور، وإنما رمزاً لنضالات البشر حول العالم. غيرت السلطة السياسية في جنوب أفريقيا منذ العام 1994وحتى الآن لون بشرتها؛ ومع ذلك، فما زالت ميكانيزمات السيطرة البيضاء اقتصادياً واجتماعياً قائمة هناك حتى كتابة هذه السطور. تعاقب ثلاثة رؤساء من الغالبية السوداء على حكم البلاد منذ نهاية الفصل العنصري، دون أن يفلحوا في إنهاء الأبارتهايد الاقتصادي والاجتماعي أو حتى يغيروا من هيكليته بشكل ملموس. ما زال البيض يملكون الشطر الأعظم من اقتصاد جنوب أفريقيا: مصانعها وشركاتها الكبرى ومزارعها الشاسعة، وما انفك السود الأفارقة يعانون من البطالة والحرمان.
تعد جنوب أفريقيا وفقاً لـ«مؤشر جيني»، من أكثر دول العالم اختلالا في توزيع الدخل، حسب تقرير البنك الدولي 2010/2011. بين عامي 1994 و2004 ارتفعت نسبة البطالة بين المواطنين السود من 36 في المئة إلى 47 في المئة. وفي حين انخفض الدخل الحقيقي للسود بمعدل 19 في المئة، فقد زاد في الفترة نفسها لدى البيض بمقدار 15 في المئة. وفي إطار «برامج تمكين السود» غير الفعالة، فقد أفلحت حكومات حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» في زيادة عدد المدراء السود في الدوائر الحكومية والشركات الكبرى، إلا أن ذلك لم يؤثر كثيراً في وضعية الغالبية الساحقة من المواطنين السود. تنخرط جنوب أفريقيا في منظمة التجارة العالمية،وتروج لتطبيق معاييرها في القارة السمراء، فلا يخفى أن تحرير الأسواق يعني تجاهل آليات إعادة توزيع الدخول، ما يقود إلى تفاوت في توزيع الثروة، وإلى زيادة معدلات الفقر. تقول الأرقام الرسمية أن معدلات البطالة تبلغ 24 في المئة طبقاً لتقديرات العام 2012، كما أن فقط 13,6 مليون جنوب أفريقي يعملون، في حين يتلقى 13 مليونا منهم إعانات اجتماعية وفقاً لتقرير «مؤشر جنوب أفريقيا» لعام 2009، ولو أضفنا متلقي الإعانات إلى العاطلين عن العمل لارتفعت النسبة أكثر من ذلك بكثير. عشرون عاماً فصلت بين أول انتخابات برلمانية غير عنصرية يفوز بها حزب «المؤتمر الوطني الأفريقي» ووفاة «تاتا» العظيم (أبو أمة جنوب أفريقيا)، لم تكن كافية لتغيير حياة الغالبية العظمى من مواطني جنوب أفريقيا. وبالرغم من كونها صاحبة أكبر اقتصاد في أفريقيا، تأتي جنوب أفريقيا في المرتبة رقم سبعة وعشرين على القارة الأفريقية وفقاً لمؤشر توزيع الدخل لمواطنيها، لذلك ما زال السود يعيشون في تجمعاتهم العرقية ذاتها، بمستويات معيشة لم تتحسن منذ زمن الأبارتهايد العنصري. حتى مصر، التي تئن فيها العدالة الاجتماعية منذ عقود، تسبق جنوب أفريقيا في معيار توزيع الدخول، بحيث ينطبق على جنوب أفريقيا القول: رئيس أسود البشرة لآليات سيطرة بيضاء.

جنوب أفريقيا في مواجهة جيرانها والعالم

قادتني دراسة سابقة لجنوب أفريقيا كقوة إقليمية في مواجهة جيرانها والعالم إلى نتائج مدهشة، فخلاف ما يلمع على السطح، هناك ما يستحق البحث والتنقيب والدراسة، وربما يكون رحيل العظيم مانديلا فرصة لاسترجاع بعضها. لا تتبنى جنوب أفريقيا فقط ليبرالية اقتصادية متطرفة داخل حدودها فحسب، ولكنها أيضاً تضغط على جيرانها لتبني السياسة ذاتها. وإذ نشطت جنوب أفريقيا منذ العام 1994 إقليمياً، فإن نشاطها الإقليمي تمثل في تكوين مؤسسات تعاون اقتصادي تضمها مع جيرانها. يساوي حجم اقتصاد جنوب أفريقيا ضعف حجم اقتصادات كل الدول الواقعة جنوب القارة الأفريقية: أنغولا وبوتسوانا وسيشيل وسوازيلاند وتنزانيا وناميبيا وزامبيا وزيمبابوي والكونغو وليسوتو وملاوي وموريشيوس وموزامبيق. لذلك تضغط جنوب أفريقيا على الدول المجاورة لها لتحرير أسواقها، حتى تسيطر شركات البنية التحتية والمقاولات والاتصالات الجنوب أفريقية عليها. عمليا يذهب الشطر الأعظم من أرباح «منظمة النيباد» التابعة للاتحاد الأفريقي إلى جنوب أفريقيا، فمنذ 2012 تم تحرير الأسواق الأفريقية أمام الشركات الجنوب أفريقية بالكامل، فاجتازت الليبرالية الاقتصادية المتطرفة حدود جنوب أفريقيا لتنساب في مفاصل تابعيها من الاقتصادات الأفريقية المجاورة. الجدير بالملاحظة أن سيطرة الشركات الجنوب أفريقية الكبرى على أسواق الدول الأفريقية تحت شعار الأسواق الحرة، لم تأت فقط جراء ضغوط تمارسها جنوب أفريقيا، وإنما أيضاً كنتيجة للضغط الغربي المؤيد لتحرير الأسواق والنافذ أصلاً في اقتصاد جنوب أفريقيا. تثير سياسات جنوب أفريقيا الإقليمية المؤسسة على جنوح ليبرالي متطرف في الاقتصاد تخوفات وحفيظة جيرانها، بالضبط، كما أثارتها إبان زمن الفصل العنصري. ولعل إبرام زيمبابوي وناميبيا والكونغو وأنغولا لحلف دفاعي في ما بينها للرد على ما تعتبره خطراً توسعياً قادماً من جنوب أفريقيا، مثال ساطع على عمق التغيير الحقيقي في السياسات الإقليمية لجنوب أفريقيا. على الصعيد الدولي أفلحت جنوب أفريقيا في تكوين منبر عالمثالثي مع الهند والبرازيل، لكن هذا المنبر لم يطرح قط بدائل للنظام العالمي الراهن، بل طرح تحسيناً لشروطه في ما يتعلق بالدول الثلاث حصرياً، وليس دول العالم الثالث ككل.

الخاتمة

سيذهب مانديلا عظيماً من عظماء حركات التحرر الوطني والإنساني، ولكن الوفاء لسيرته والقيم التي ناضل من أجلها يتطلب تسليط الضوء على زوايا متعددة من تجربته؛ لا على الجانب الاحتفالي فقط كزعيم وكراحل. الانتصار لمبادئ مانديلا يعني الاعتراف بأنه ورجاله على كرسي الرئاسة من بعده لم يفلحوا في تحسين مستوى معيشة عشرات الملايين من مواطنيهم. التسليم بالإنجاز التاريخي الكبير لتجربة الراحل مانديلا، لا يعني غض كامل للبصر عن الأبارتهايد الاقتصادي والاجتماعي المستمر في جنوب أفريقيا وغيرها من دول القارة والعالم.
الوفاء لذكرى العظماء واجب، ولكنه لا يقتصر على العبارات والشعارات التي تغطي وسائل إعلامنا العربي بهذه المناسبة وغيرها، وإنما باستخلاص العبر والدروس وفاء لذكرى الراحل العظيم ونضالاته الإنسانية.