العَلمانية والاشتراكية

العَلمانية والاشتراكية

تمتاز الأزمات الانعطافية التي يمر بها المجتمع البشري بكونها مناسبات لولادة مفاهيم جديدة يعكسها الواقع الجديد، كما تعاني المفاهيم القديمة من امتحانها على محك التجربة، فإما أن تصمد أو تتطور أو تنسف بكاملها. 

 

 

«العَلمانية» واحدة من المفاهيم التي تطرح اليوم في الخطاب الإعلامي والسياسي والثقافي، إلى جانب مفاهيم «الديمقراطية»، «المجتمع المدني» وغيرها.. وتقدّم بوصفها مرتبطة بدرجة ما بـ(التغيير)، و(الثورة) و(اليسار). فما هو كنه العَلمانية ودورها المعاصر في مرحلتنا التاريخية المتأزمة اليوم؟

العَلمانية كوعي برجوازي

«خفقت راية الدين للمرة الأخيرة في إنكلترا في القرن السابع عشر، وبالكاد مضى خمسون عاماً حتى ظهرت في فرنسا وبشكل سافر النظرة الجديدة للعالَم والتي أصبحت النظرة الكلاسيكية للبرجوازية، إنها النظرة التشريعية (القانونية) للعالم.   لقد كانت عبارة عن عَلمَنة للنظرة اللاهوتية. فحلّ الحق البشري مكان العقيدة، الحق الإلهي. وحلّت الدولة مكان الكنيسة.»

(من مقال لفريديريك إنجلز بعنوان «اشتراكية المحامين» – العدد الثاني من مجلة «الزمن الحديث» Die Neue Zeit  1887)

ويبين إنجلز في نفس المقال أن مطلب الطبقة العاملة في الحصول على «كامل منتوج العمل، مثلما هو مطلبها في «المساواة الاجتماعية» - وليس مجرد «المساواة أمام القانون» التي تدافع عنها البرجوازية من مبدأ تكافئ الفرص في المنافسة في التجارة بين منتجي البضائع الحرة – هذه المطالب تدخل في تناقضات غير قابلة للحل عندما تضيع في التفاصيل التشريعية القانونية دون المساس بجوهر المسألة «تحويل أسلوب الإنتاج»، وكما نعلم فإنّ تحويل أسلوب الإنتاج يعني نزع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج التي تحتكرها البرجوازية لنفسها، وجعلها ملكية عامة للطبقة العاملة، أي بناء الإشتراكية. فالطبقة العاملة كما يقول إنجلز «لا يمكنها أن تجد التعبير الكامل عن شرط حياتها في الأوهام التشريعية للبرجوازية».

العَلمانية والماركسية

كتب غرامشي في دفاتر السجن: «فلسفة الممارسة تفترض كل الماضي الحضاري السابق: عصر النهضة والإصلاح، الفلسفة الألمانية والثورة الفرنسية، والكالفينية وعلم الاقتصاد الكلاسيكي الإنكليزي، والليبرالية العَلمانية.. فلسفة الممارسة هي التتويج لكامل هذه الحركة من الإصلاح الفكري والأخلاقي وقد جُعِلت ديالكتيكية في التمايز بين الثقافة الشعبية والثقافة العالية.»

إذن ليست العَلمانية الليبرالية، مثلما هو الدين أيضاً، سوى لحظة تاريخية مكونة ساهمت بالوصول إلى الماركسية التي هي النقطة المتوجة للتطور الفكري والأخلاقي السابق لها، وفمثلما لا يمكن اليوم النكوص من الماركسية وتفسيرها المادي والتاريخي للعالَم إلى التفسيرات المثالية واللاهوتية، لا يمكن كذلك النكوص من الماركسية إلى العَلمانية. الاشتراكية العلمية تجاوزت العَلمانية ونفتها مع الاحتفاظ بعناصرها الإيجابية التي ما تزال ضرورية وصالحة، ولا يمكن للشيوعين أن ينطلقوا في نضالهم من نقطة تجاوزها التاريخ. إنّ مطابقة الاشتراكية مع العَلمانية هو خطأ علمي، وبالممارسة يقود حكماً إلى أخطاء سياسية. 

العَلمانية في الثنائيات الوهمية

ورد في مشروع برنامج حزب الإرادة الشعبية المقدم للنقاش العام منذ 31 – 8 – 2013 :

(في سعي الرأسمالية لإخفاء الصراع الحقيقي بينها وبين شعوب العالم، وتغطيته ضمن منطق الثنائيات الوهمية بجملة من الصراعات الوهمية الثانوية، عملت بشكل خاص ضمن منطقة الشرق العظيم طوال القرن العشرين وحتى اليوم على ضرب التيارات الشعبية الثلاثة بعضها ببعض، وهي التيارات اليساري والقومي والديني، وهي جميعها – كتيارات شعبية – معادية بعمق للإمبريالية الأمريكية وللصهيونية العالمية، ولكن تمثيلاتها السياسية لم تكن كذلك دائماً، الأمر الذي أوجد ثغرة سمحت للإمبريالية بالدخول وتصوير التمايز بين هذه التيارات الشعبية على أنه تناقض غير قابل للحل، وسمح لها بتقديم مزيد من الثنائيات الوهمية من نمط «يساري – قومي»، «يساري – إسلامي»، «قومي – إسلامي» )

ويمكن أن نضيف إلى ما سبق  أنّ ثنائية «علماني – متديّن» من الثنائيات الوهمية التي استغلت لعرقلة الاصطفاف الوطني والطبقي المعادي للإمبريالية والصهيونية. 

ويشهد تاريخ منطقتنا أن التمثيلات السياسية المتهادنة أو حتى العميلة للإمبريالية والصهيونية بالجوهر قد تنوعت بالفعل صبغاتها الإيديولوجية وتناقضت ظاهرياً، من إسلاميين كالإخوان المسلمين وأشباههم، إلى عَلمانيين، سواءً أكانو قوميين أو يساريين.

هنا تبرز أهمية الرؤية الجديدة التي طوّرها حزب الإرادة الشعبية لمفهوم «اليسار» و(اليمين» – مشروع البرنامج: « الناس لن تستقطب – إلا مؤقتاً – وفق شعارات تلك القوى وعناوينها الأيديولوجية، وستميز بتجربتها بين يسار فعلي ويسار اسمي، وبين يمين فعلي ويمين اسمي، وفقاً للثلاثية «الوطنية، الاقتصادية-الاجتماعية، الديمقراطية».

وعلى ضوء هذه الرؤية فإنّ التيارات الشعبية الثلاثة في معاداتها للإمبريالية والصهيونية تقترب من اليسار الفعلي، في حين لا تكفي عَلمانية العَلمانيين لضمان عدم إنحيازهم إلى اليمين الفعلي في واحدة أو أكثر من قضايا الثلاثية. 

تاريخ العَلمانية المستغرِبة

يكتب المفكر الماركسي والتراثي هادي العلوي «في الإسلام المعاصر»: «يتعايش التدين الاسلامي في السعودية مع الولاء للغرب والتبعية العمياء لامريكا.. والسعودية في ميزان الإمبرياليين هي الوجه الآخر لسيرورة ارتباط يضمن الغرب من ورائة ولاء العرب والمسلمين.. إلى جانب العَلمانية الليبرالية المستغربة.»

يمكننا تلمّس أربعة مراحل رئيسية لتاريخ العَلمانية الحديثة في منطقتنا، أو «العَلمانية الليبرالية المستَغرِبة» باصطلاح هادي العلوي:

المرحلة الأولى: بدأت مع بعض المحسوبين خطأ على أفكار «النهضة العربية» ممن اكتفوا بالدعوة العَلمانية غير المتلازمة مع التحرر الوطني والقومي. فكانت «عَلمانية» هؤلاء انتهازية سياسية موجهة ضد «الخلافة الإسلامية» المزعومة ممثلة بالدولة العثمانية بغرض مضمر هو إحلال الإستعمار الغربي محلها. وهم بهذا المعنى أسلاف ظاهرة العلمانية الجديدة الحالية. («العلمانيون الجدد» في خدمة الإستعمار الجديد - بقلم بشير يوسف - قاسيون العدد 232 – 22/ 10/2004 ).

المرحلة الثانية: العَلمانية الليبرالية للأنظمة: استخدمت الأنظمة الاستبدادية التي ارتبطت مصالحها بالغرب العلمانية كشعار لتنافس فيه الحركات الوطنية والتحررية والقوى الثورية، والتي كانت علمانية بدورها وحظيت بتأييد شعبي واسع،خنقت تلك الأنظمة الحريات السياسية وقلصت من الهوامش الديمقراطية، وتبنت برنامجاً اقتصادياً ليبرالياً ترتبط من خلاله مع السوق الرأسمالية العالمية، وتمارس سياسات متخاذلة على المستوى الخارجي والوطني، والأمثلة كثيرة من نظام شاه إيران إلى علمانيي الجيش التركي إلى أنظمة أمريكا اللاتينية التي جاءت عبر الانقلابات العسكرية وعدد من الأنظمة العربية.

المرحلة الثالثة: ويمكن عنونتها «العَلمانية ضدّ صعود المقاومة الشعبية»، بدأت منذ أن سقوط المبادرة والدور الوظيفي في مقاومة الاحتلال الصهيوني والمشروع الإمبريالي الأمريكي – الغربي في شرقنا العظيم من أيدي حركات اليسار المتراجع وانتقال هذه المبادرة والدور الوظيفي إلى أيدي الحركات الشعبية الإسلامية المقاومة التي ملأت الفراغ (الثورة الإسلامية في إيران والمقاومات الإسلامية في الأراضي العربية المحتلة في جنوب لبنان وفلسطين ولاحقاً العراق). ولأنّ الذين ملؤوا الفراغ كيسار فعلي مقاوم كانوا غير عَلمانيين فقد وضع كثير من «اليساريين» والعَلمانيين أنفسهم في موقع التناقض العدائي معه على أساس الثنائية الوهمية (علماني – غير علماني). 

جزء منهم وقع بهذا الخطأ بسبب اختلاط الأمور عليه إثر تراجع وتشقق حركات وأحزاب اليسار وعدم استيعابه لواقع هذا التحول وأسبابه ونتائجه التي لم تتوقف عند تفكك الاتحاد السوفياتي. ولكنّ الغرب الإمبريالي بالتعاون مع الرجعية العربية وقوى الفساد المرتبطة به داخل المجتمعات والأنظمة استطاع أيضاً أن يصنّع ويجنّد جزءاً آخر من النخب المثقفة التي اشتراها بالمال ودفعها لتبشّر بموجة على مقاس مصالحه تحت شعارات منها «العَلمانية» بشرط أن تتعهّد بولائها له وعدائها المقاومة، إضافة لشعارات «الديمقراطية»، و»حقوق الإنسان».. إلخ، بحيث يتكامل عملها مع الأجنحة الأخرى اللاعَلمانية من عملائه، والتي أوكل إليها مهمة تحريض وتعميق فوالق أخرى دينية وطائفية وقومية وعشائرية وغيرها..

المرحلة الرابعة: مرحلة توظيف العَلمانية كواجهة للإسلام السياسي، وبالتناوب معه، لصالح الغرب في بلدان «الربيع العربي». ويذكر كمثال على ذلك «رجالات الموزاييك الطائفي « المشكل لما كان يسمى «المجلس الوطني» للمعارضة السورية، وهم يقدمون كـ «َعلمانيين»، كرئيس المجلس السابق برهان غليون الذي يبرر صدر الدين البيانوني تقلده رئاسة المجلس في أحد الفيدبوهات المصورة بأنه «واجهة علمانية ضرورية للمجلس» (العلمانية كواجهة للإسلام السياسي– محمد دياب _ قاسيون العدد   - 566 – 16/8/2012).

يسعى معتنقو العلمانية ودعاتها إلى تحويلها إلى طائفة جديدة، منبوذة، تعمد أسلوب التحاصص الطائفي ضمن المنطق الديني نفسه الذي ترفضه العَلمانية وأصبحت قناعاً لتزيين الديكتاتوريات العسكرية، أو النيوليبرالية لاحقاً، والالتحاق بالغرب

 

ويلاحظ امتداد العَلمانية الليبرالية للأنظمة إلى المراحل الثالثة والرابعة وتداخلها معها لتصبح «مستَغرِبة» أكثر (أي أكثر تبعية للغرب)، وأكثر اغتراباً عن حاجات ومصالح الشعوب وخاصة بعد استكمال تبنيها الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق الحر، لذلك لا يعود مستغرباً أو متناقضاً أن يعمل الرأسمال الأمريكي والأوروبي على فتح أقنية تمويل ودعم موجَّه مع الأنظمة الفاسدة وذلك الجزء من معارضاتها المشتركان بنهجهما النيوليبرالي، سواء بغطاء عَلماني أو إسلامي، وأنشطة منظمات أمريكية مثل الوكالة الأمريكية للتنمية USAID وصندوق الديمقراطية القومي NED وغيرها باتت معروفة وموثقة في هذا المجال.

تغريب العَلمانية واغترابها

تعاني العَلمانية في طروحات النخب من «اغترابها عن ثقافة وتـراث بلدانها، ويظهر هذا في محاولة طرح النموذج الجاهز الغربي، الأمر الذي يعني الوقوع في مطبّ النظرة الاستشراقية أو الأورومركزية التي طالما نظر الغرب إلينا من خلالها، فذلك الانقطاع عن التراث والماضي يعني الانقطاع عن الوعي الاجتماعي الذي يلعب التراث دوراً مستمراً في تكوينه».

يقول ماركس في «مقدمة لمساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل»، 1844: «المعاناة الدينية، هي في الوقت نفسه التعبير عن المعاناة الواقعية واحتجاجٌ على المعاناة الواقعية. الدِّينُ هو تنهيدةُ المخلوق المقموع، هو القَلْب لعالم عديم القَلب، وهو الرُّوح لظروفٍ بلا روح. إنه أفيون الشعوب».

تُعدّ تجربة «لاهوت التحرير» لدى اليسار في أمريكا اللاتينية، وتجربة المقاومة الإسلامية في منطقتنا نماذج إيجابية معاكسة للتوجه الاغترابي في تبنّي العَلمانية. يجب ألّا نهمل المراجعة العلمية للدين والتراث ونستخلص منهما العناصر الأكثر إيجابية وتقدمية ونترك العناصر الرجعية إذا كنا نريد أن نحقق أكبر جدوى من نضالنا من أجل الاشتراكية والشيوعية وخلاص الإنسانية وإعادة «الروح والقلب» إلى هذا العالَم.

آخر تعديل على الثلاثاء, 09 آب/أغسطس 2022 21:41