الطاقة النووية: تغيير تكنولوجي أم اجتماعي؟ (2-2)
دون فيتز دون فيتز

الطاقة النووية: تغيير تكنولوجي أم اجتماعي؟ (2-2)

يرفض رودس بوضوح اعتبار جزيرة ثري مايل وتشرنوبيل وفوكوشيما بوصفها أكثر من حوادث لم تكن لتحدث بالضرورة لو كان الناس أكثر حذراً. أي بكلمات أخرى، لو أنّ البشر يتصرفون بوصفهم ليسوا بشراً لما كانت الكوارث النووية لتحدث.

تعريب وإعداد: عروة درويش

إنّ المؤلف إمّا جاهل بقانون «برايس أندرسون» عام 1957 أو أنّه اختار إغفاله عن عمد. تمّ تمرير هذا التشريع من أجل تشجيع الشركات الخاصة على بناء مفاعلات الطاقة النووية من خلال الحدّ من مسؤوليتها الكاملة. يخشى الكثيرون في الوقت الراهن أن تذوب المفاعلات القريبة منهم لتتسبب بضرر يفوق المليارات بكثير، وذلك مع عدم اضطرار الشركات إلى تعويض ضحاياها بالكامل. إن كان رودس يؤمن حقاً بادعاءاته الخاصة بشأن سلامة المفاعلات النووية فعليه أن يدعو إلى إلغاء قانون برايس أندرسون لكونه ليس ضروري. لكنّ القانون لا يظهر أيضاً في فهرس كتابه.

يستخفّ رودس بالمخاوف المتعلقة بالنفايات النووية، ويقترح علينا دفنها لألف عام وأن نترك أحفادنا يتأقلمون معها. إنّ العقلاء من البشر لا يريدون عادة أن يورثوا أحفادهم سرطان الدم. ومن جديد ينسى الكاتب ما دونه في فصل سابق من أنّ نصف العمر الإشعاعي لليورانيوم 238 هو 4.5 مليار سنة.

يبدو أنّ رودس غير مدرك لكون بعض أنواع النفايات المشعّة يصبح أكثر إشعاعاً بمرور الوقت، جرّاء إنتاج الذرّات الوليدة «daughter atoms» ذات العمر النصفي القصير. يمكن للنشاط الإشعاعي أن يزداد مبدئياً لآلاف السنين قبل أن يتراجع، وذلك الفاصل الخطير يمكن أن يستمر لفترة أطول بكثير من الفترة الواصلة بين حقبة بناء الأهرام واليوم.

ولا يبدو كذلك مدركاً لأنّ كلّ محطة نووية يجب أن تصبّ كميات هائلة من الماء الساخن في نهر أو محيط مجاور معرضة الحياة المائية فيه لخطر حقيقي. ولا يبدو مدركاً كذلك لكون الأرض نفسها غير مستقرّة وعرضة للزلازل والفيضانات والكوارث الأخرى، والتي كانت معضلة إشكالية بالنسبة لمكبّ نفايات سانت لويس الذي يضمّ نفايات أصلية من مشروع مانهاتن. وتقوم هذه النفايات مع نفايات المكبات التقليدية التي تحترق الآن بقطع طريقها نحو بعضها البعض، وهو الأمر الذي يشكّل رعباً للذين يعيشون في الجوار.

الكثيرون من الناس من الذين يعيشون في أوقات مختلفة «ويتضمن ذلك المستقبل» وللكثير من الأسباب المختلفة يتعاملون الآن وسيتعاملون في المستقبل مع الادعاء غير المسؤول بأنّ النفايات النووية ليست خطيرة.

لم يخطر لرودس أبداً أن يقارن الرعب لدى شخص من إلقاء قنبلة على مفاعل نووي بالرعب لدى آخر من إلقاء قنبلة على منشأة طاقة شمسية أو طاقة رياح. والأسوأ من ذلك أنّه للانتشار العالمي للطاقة النووية إلى دول ليست قادرة على حماية مفاعلات الطاقة النووية. يبدو أنّ رودس قد نسي ما كتبه في الفصول الأولى عندما وصل برنامج «الذرات لأجل السلام» من حقبة أيزنهاور بتوسيع نطاق الأسلحة النووية. وكذلك لم يتذكر نقاشاته الأولى حول الحاجة لاستخدام صيغة من وقود اليورانيوم في ذلك الوقت من شأنه «تقليل خطر الانتشار النووي».

يفتقد رودس بعمق إلى الاتصال بين التكنولوجيا والعلاقات الطبقية حين يقدم الطاقة النووية بوصفها مورد طاقة محايد اجتماعياً. فهو يؤيد بناء عدد كبير من المفاعلات النووية في إفريقيا كما لو كان الأمر مجرّد قضيّة تكنولوجية محضة لا تداعيات لها على هيمنة القوى الغربية المتعطشة لمعادن القارة الهائلة. لقد حدثت أكبر زيادة للقواعد العسكرية للجيش الأمريكي في إفريقيا خلال الأعوام العشرة الماضية، ويمكن تعديل مهمة هذه القواعد بما يلزم للهيمنة ولحماية توسع المحطات النووية.

قد يؤكد مؤيد الطاقة النووية بأنّ قوات الشرطة الضخمة اللازمة لحراسة تلك المرافق هي «أثر جانبي» للتكنولوجيا، لكنّ هذا الكلام ليس أكثر من ثرثرة فارغة. فبعيداً عن كونها «أثراً جانبياً»، فإنّ الأمن المسلّح هو سبب وجود هذه التكنولوجيا. من المفترض أن تستخدم الأسلحة النووية ضدّ أعداء البلد، في حين أنّ المحطات النووية تخلق الحاجة إلى قوّة شرطة سرية ضخمة لحماية الموارد المشعة التي يمكن استخدامها ضدّ السكان إذا ما سنحت الفرصة.

إنّ الإخفاق في فهم الدور المركزي لأشكال معينة من الإنتاج في إخضاع الناس هو سمة رئيسية لما يمكن أن يسمّى «الهراء التكنولوجي للإيكولوجيا-العصرية ecomodern technobabble». إنّ «الهراء التكنولوجي» ينبع من الاعتقاد الدوغمائي بأنّ التكنولوجيا لا ارتباط بينها وبين علاقات القوى، ويمكن أن يتم استخدامها من قبل أيّ شخصٍ سواء لتحقيق أغراضٍ جيدة أو سيئة.

أمّا «الإيكولوجيا-العصرية» فهي العقيدة الإيمانية التي تقوم على إمكانية حلّ اندفاعة مشكلة تعقيد التكنولوجيّة من خلال زيادة التعقيد التكنولوجي. إنّ «الإيكولوجيا-العصرية» مفتونة بالمنهجيات التي تتطلب تنفيذ مشاريع ضخمة من قبل الشركات و/أو الحكومات، مثل الهندسة الوراثية أو احتجاز الكربون وتخزينه أو الكائنات المعدلة وراثياً، وكذلك وبكل تأكيد الطاقة النووية. إنها غافلة عن الاحتمالات البشعة التي يمكن أن تجرّها هذه المشاريع وهم يحتقرون الذين يحذرونهم من مخاطرها.

تفترض «الإيكولوجيا-العصرية» أنّ الاحتياجات البشرية لا يمكن تحقيقها إلّا عن طريق زيادة استخدام الطاقة بشكل غير محدود، وذلك على كوكب موارده محدودة. إنّ هوسهم بالأدوات التكنولوجيّة يعني بأنّ الإيكولوجيا-المعاصرة تضيّع حلول مشاكل الطاقة التي تركز على إنتاج طاقة أقل من خلال تغيير ما يتم تصنيعه.

وكما يلاحظ جون بيلامي فوستر: «يتم تبديد الجزء الأكبر من الإنتاج على قيم الاستخدام الرأسمالي السلبي، وذلك بأشكال مثل الإنفاق العسكري. ويمكن إضافة نفقات التسويق، وعدم الكفاءة وما تتضمنه من الاهتلاك المخطط له والموجود في كلّ منتج». ويمكن أن نضيف إلى هذه اللائحة السلع المخصصة لتتلف، والتخطيط المديني الذي يجبر الناس على استخدام سيارات مفردة، والنظام الصحي الذي تقوده مجمّع مجال أعمال المشافي-الأدوية-التأمين. باختصار، إنّ تغيير العلاقات بين الناس وكذلك العلاقات بين البشرية والطبيعة هي الطريقة الأمثل للتعامل مع احتياجات الطاقة.

في كتاب «الطاقة» لم يسعى رودس وراء مثل هذا الحلم على الإطلاق، بل اختتم كتابه عبر ابتلاع النموذج المعلّق في الخطّاف: «السعادة = المزيد من الأشياء». لقد فشل رودس في استكشاف إمكانيات الحفاظ على الطاقة، فحين صوّر منتقدي توماس ميدجلي على أنّهم «متلوين متعصبين للصـحة»، وقلّد كالابريسي بوصف نظريّة «اللاعتبة الأفقية» عن الإشعاع بكونها «ليست حقيقية ومجرّد زيف»، كان قد فشل في اقتراح حلول لتغيّر المناخ وبات مثل مرآة لما يقوله منكرو مشاكل تغيّر المناخ مثل دونالد ترامب ليهاجم بشكل شخصي جميع الأبحاث العلمية.

إنّ التحدي البيئي الأكبر في عصرنا هو إدراك أنّ مصادر التدمير الحيوي الكثيرة مترابطة بشكل متداخل ويجب أن يتمّ التصدي لها دفعة واحدة وليس ترك أحدها من أجل التركيز على آخر. إنّ التهديد الشديد لتغيّر المناخ سيقترب من الحل أكثر عبر التخلّص من تهديدات الطاقة النووية. إنّ كتاب رودس لا يرسم مساراً يجب على الإنسانية أن تسلكه، بل هاوية من «الهراء التكنولوجي للإيكولوجيا-العصرية» تسقط بها.