الطاقة النووية: تغيير تكنولوجي أم اجتماعي؟ 1-2
دون فيتز دون فيتز

الطاقة النووية: تغيير تكنولوجي أم اجتماعي؟ 1-2

لقد تعرّض الإيمان بإمكانية تخطي الكارثة البيئية عبر التقنيات التكنولوجية، وليس عبر التغيير في العلاقات الاجتماعية، إلى نكسة كبيرة عقب نشر الكاتب المرموق ريتشارد رودس لكتابه بعنوان: «الطاقة: تاريخ بشري». بعد الانتهاء من ثمانية عشر فصلاً من أصل العشرين فصلاً الذي يتألف منهم الكتاب، يبدأ رودس اكتشافه للطاقة النووية عبر تشبيه «الناشطين البيئيين» ريتشل كارسون (1907-1964) رالف نادر (1934 وحتى الآن) وهيلين كالديكوت (1938 وحتى الآن)، بشخصيات من «مناهضي الإنسانية» أمثال توماس مالتوس وبول إلريتش وأتباع أدولف هتلر.

تعريب وإعداد: عروة درويش

يستند هذا التشبيه الغريب إلى كتابات أحد المؤلفين الغامضين السابقين لكارسون بتوقع نذير الشر الذي يسببه فرط التكاثر لدى «البشر غير المرغوب بهم». يقول رودس بأنّ الحركة البيئية قد اعتمدت دون أن تدرك إيديولوجيا مناهضة للإنسانية في نسختها عن العالم الأبسط. إنّ المدافعين عن البيئة، عبر الدعوة لمجتمعٍ أقلّ اعتماداً على التكنولوجيا المعقدة، يدينون الملايين من البشر المفقرين بتعريضهم للآفات والجوع.

يصرّ المؤلف على أنّ الطاقة النووية وحدها هي القادرة على إنقاذ البشرية من شحّ الطاقة، وعليه فإنّ رفض الطاقة النووية هو عمل مناهضٌ للإنسانية. لكن ماذا عن التسمم بالإشعاع النووي، الأمر الذي يعدّ حاسماً فيما يخص المخاطر النووية؟ يقدّم رودس قضيّة قد تصبح هي التبريرات التي يعتمدها الجيل التالي المؤيد للطاقة النووية. فعند استعراضه نظريات عام 1926 قام باتهام هيرمان مولر بارتكاب جريمة كبرى بعد اكتشافه بأنّ التعرّض لكميات ضئيلة من الإشعاع قد سبب تحولاً جينياً لدى ذباب الفاكهة. طوّر مولر نموذج «اللاعتبة الأفقية linear no-threshold – LNT» الهام الذي يعتبر من المسلمات العلاقة «الأفقية» بين كميّة الإشعاع التي يتم التعرض لها ومدى الضرر الخلوي محتمل الحدوث، أو بمعنى آخر ليس هناك أي كميّة إشعاع صغيرة لدرجة ألّا يكون لها آثار سلبية.

قبل النظر إلى الهجوم الرئيسي على نظريّة «اللاعتبة الأفقية – LNT»، دعونا نعود إلى الـ 90% الأولى من كتاب رودس، وهو في كثيرٍ منه خليطٌ من المشاهد من أولئك الذي كان لهم دور في الاكتشافات العلمية. يُظهر الكاتب في أكثر قصصه شمولية كم يمكن للطمع أن يحفز الاكتشافات التي تؤثر بشكل جوهري في حياة البشر بينما يخبرنا بكيفية قيام توماس ميدجلي بأبحاث إزالة «البينغ» أو صوت الطرق من أوّل سيّارة عاملة بالغازولين.

كرّس ميدجلي أكثر من ستّة أعوام من حياته في البحث عن إضافة للوقود يكون لها تأثير «اللا طرق». وجد بأنّ كحول الوقود سيكون باهظ الثمن جدّاً. البنزول سيعمل بشكل جيّد أيضاً، لكن سيكون من المستحيل أن يصنع منه ما يكفي. وكلا الأوكسجين والكلورين يزيدان من الطرق. الأنيليني وأوكسي كلورايد السيلينيوم والتيليريوم يعملون، لكنّهما ينتجان رائحة بشعة. بعد فحص عنصر تلو الآخر من عناصر الجدول الدوري، وجد أخيراً إضافة للغازولين. الرصاص رباعي الإيثيل «tetraethyl lead». وبما أنّ التأثيرات السامّة للرصاص كانت معروفة جيداً، فقد تمّت تسمية المنتج «الغازولين الإيثيلي»

حظرت عدّة دول بيع الغازولين الإيثيلي ممّا استدعى ميدجلي للردّ بأنّ عوادم السيارات تنتج نسبة قليلة جداً من الرصاص لا تدعو للقلق. أعلن نائب رئيس إحدى شركات الوقود بأنّ وقود المحركات المحتوي على الرصاص كان «هبة من الله»، حيث أخبر ميدجلي شريكه بأنّهما قد يجنيان 3 سنت عن كلّ غالون وقود يحتوي على الرصاص في الـ 20% من السوق التي قد يحتكرونها. وخلال العقود القليلة التالية تسبب الوقود المحتوي على الرصاص بأضرارٍ لا يمكن إحصائها على أنظمة البشر الحيوية وكذلك تسبب باعتلالات عصبية سلوكية هائلة.

ورغم أنّ هذا الوصف الذي يربط الابتكار التكنولوجي بالمعاناة الإنسانية هو القصّة الأكثر تراجيديّة في كتاب رودس، فإنّ القصص الأخرى تصوّر التفاعل بين التكنولوجيا والإيكولوجيا. فمع تقدير المزيد من الناس للهب الأزرق الجميل الناتج عن احتراق الزيت المستخرج من الحجر الرأسية لنطاف الحيتان، قلّص صيد الحيتان من أعدادها. فبحلول العقد الخامس من القرن التاسع عشر كان على صيادي الحيتان أن يسافروا مسافات أبعد ليجدوا ما يصيدونه، ممّا زاد من أثمان الزيت وقلل من استخداماته.

إنّ فهمه الواضح لإمكانية اتخاذ الابتكارات مساراً خاطئ يجعل من استهانته بنظريّة «LNT» ومُنشئها هيرمان مولر أمراً يستحق أخذه بالحسبان. لكنّ محاولاته لتشويه سمعة مولر لها سماتها المزعجة. أولاً، فهو يعتمد في حجاجه على الهجوم الشخصي ضدّ علماء وناشطي بيئة. ثانياً، يقوم بالاستخفاف أو بتجاهل كميّة كبيرة من البيانات.

ثالثاً، يفتقر حجاجه إلى التلاؤم الداخلي حيث يتناقض مراراً وتكراراً في معلوماته الموزعة على أجزاء الكتاب المختلفة. مثال، في الصفحة 324 يدعي بأنّ الطاقة النووية هي «طاقة خالية من انبعاثات الكربون»، ثمّ في الصفحة 332 يقول بأنّ الطاقة النووية تنتج غازات الدفيئة أثناء «البناء والتعدين ومعالجة الوقود والصيانة وإيقاف التشغيل».

يستعير رودس شجبه لمولر من مقال كتبه إدوارد كالابريس، والذي يقول فيه بأنّه اكتشف أدلّة عن كون مولر قد قمع عملية البحث عام 1946. فأثناء إلقاءه لخطاب تسلمه جائزة نوبل لم يقرّ مولر بأنّه تلقى بحثاً مناقضاً لنظريّة «LNT» على ما يعتقد كالابريس. إنّ اتهامات كالابريس التي يرددها رودس غير معقولة لأنّه من السخف أن نفكر بأنّ خطاب تسلّم جائزة نوبل سيتغيّر نتيجة اكتشاف واحد غير متوقع، ولأنّ مولر كان له دور فعّال فيما بعد ذلك في نشر ذلك البحث.

إنّ كالابريس وليس مولر هو الذي فقد مصداقيته، وذلك يعود بشكل كبير لتأكيده الغريب المتزايد بأنّ قبول نظرية «LNT» كان بسبب «تزييف وتلفيق سجل الأبحاث». خاصة وأنّ موضوعية كالابريسي هي موضع شك نتيجة التمويل الذي يتلقاه من شركات الصناعات النووية مثل إكزون-موبيل وداو كيميكال وجنرال إلكتريك.

كما يمكن أن يكون سبب عدوانية كالابريس هو الرفض شبه العالمي لنظريته «الإنهاض – Hormesis» التي تقول بأنّ مستويات ضئيلة من الإشعاع تنفع صحّة البشر. ففي عام 2006 تقدّم كالابريس بحجاجه من أجل نظريته أمام «اللجنة الدولية للتأثير الحيوي للإشعاعات المؤينة»، وهي التي رفضته بدورها لصالح نموذج «اللاعتبة الأفقية – LNT». إنّ نموذج «اللاعتبة الأفقية» مقبولٌ من لائحة غير منتهية من الوكالات والمنظمات الصحيّة.  

وثّق الكثير من الباحثين آثار التعرّض لإشعاع منخفض المستوى «LLR» من مختلف مراحل إنتاج الطاقة النووية والإشعاع في الخلفية والأشعة السينية والتصوير المقطعي المحوسب. تظهر الزيادة في نسب الإصابة بسرطان الدم في الأبحاث التي أجريت على أكثر من 110 ألف عامل تنظيف بعد كارثة تشرنوبل وعلى 300 ألف عامل في المجال النووي في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا. إنّ الزيادة في نسب الإصابة بسرطان الدم بين الأطفال الذين يعيشون قريبين من مفاعلات الطاقة النووية تظهر بشكل جلي في الدراسات في المملكة المتحدة وفرنسا وسويسرا وألمانيا. إنّ الأطفال بشكل خاص عرضة للتأثر بالإشعاع لأنّ نسيجهم ينمو بسرعة. إنّ التعرّض المزمن للإشعاع هو أيضاً ذو صلة بالإصابة بالورم الِنقِويّ المتعدد «Multiple myeloma» وبسرطان الرئة وسرطان الغدّة الدرقية وسرطان الجلد وسرطان الثدي والمعدة.

إنّ قبول الرأي القائل بأنّ التعرض لإشعاع منخفض المستوى لا يتسبب بأيّ ضرر قد يؤدي إلى إنهاء التشريعات الناظمة التي يرى الكثيرون بأنّها ضعيفة بالفعل. وهذا يؤدي إلى أنّ علينا تطبيق «المبدأ الوقائي» الذي يقول بأنّه إن كان هناك شكّ حول سلامة مادة ما فإنّ عبء إثبات كونها مادّة آمنة يقع على عاتق من يدافعون عنها، وذلك بدلاً من إثقال كاهل هؤلاء الذين يشكون بسلامتها بعبء إثبات ضررها. بمعنى آخر: «السلامة خير من الندامة». إنّ «المبدأ الوقائي» ليس حتّى موجوداً في فهرس كتاب «الطاقة»، فما بالك عن مناقشته. يقترح رودس في مقاربته أن «نرمي بالحذر أدراج الرياح».