الصناعات الدوائيّة 4| السيطرة على المعرفة
جويل ليكسين جويل ليكسين

الصناعات الدوائيّة 4| السيطرة على المعرفة

تعريب: عروة درويش

السيطرة على المعرفة:

يمكن للاختبارات السريريّة التي تبيّن عدم فاعلية منتج ما أو تثير مخاوف تشكيله لخطورة جديّة على السلامة، أن تؤثر بشكل هائل على المبيعات. ففي تموز 2002، وجدت «منظمة صحّة المرأة» في اختباراتها السريرية بأنّ خلائط الأستروجين والبروجستين التي تستخدم كعلاج هرموني بديل، قد تزيد في خطر الإصابة بأمراض القلب وبسرطان الثدي لدى النساء اللواتي توقف لديهن الطمث. ثمّ في حزيران 2003، انخفضت مبيعات منتج بريمبرو، خليط الأستروجين والبروجستين واسع الشهرة، بنسبة 66% في الولايات المتحدة.

ومن أجل تفادي مثل هذا السيناريو والاستمرار في توسيع العائدات، انتقلت الشركات من السيطرة على تطوير عقاقير جديدة إلى السيطرة على المعرفة بشأن هذه العقاقير، لتضمن أنّ رسالتهم هي الوحيدة التي ستصل إلى الأطباء والمرضى. تموّل شركات الأدوية جميع الاختبارات السريريّة السابقة للتسويق، وهي الاختبارات التي تستخدم كأساس للموافقة على دواء جديد أو على صيغة جديدة لدواء موجود. هذه الاختبارات هي أساس المعرفة المتعلقة بالعقار، وبالتالي فإنّ نتائجها مهمّة بشكل هائل. تقوم الشركات، بوصفها ممولة، بالسيطرة على جميع مناحي الاختبارات، بدءاً بالتصميم الأولي ووصولاً إلى المنهج المعتمد لإجرائها وتحليلها، وللكيفيّة التي سيتمّ فيها إدراج نتائجها في التقارير المقدمة للوكالات المختصة مثل إدارة الأغذية والدواء الفدرالية. وتنسحب تلك السيطرة على كيف سيتمّ نشرها، ولحدّ كبير كيف يتم تقديمها للأطباء.

يبدأ الانحياز للشركات مع تصميم الاختبارات. تتمّ مقارنة الدواء المطلوب اختباره بدواء آخر موجود في السوق بالفعل، ويتم بشكل احتيالي اختيار جرعة أعلى أو أدنى من الدواء الذي تمّت المقارنة به، وذلك من أجل إمّا التقليل من شدّة فاعليته أو المبالغة في آثاره الجانبية. ففي الثمانينيات، كان السبب الأكثر شيوعاً لإلغاء الاختبارات على الأدوية التي وصلت لمراحل متقدمة من الأبحاث، ويتضمن ذلك علاجات السرطان وأمراض القلب والأوعية الدموية والإنتانات الولادية، هو السبب التمويلي بنسبة 43%، بالمقارنة مع 31% بسبب الفاعلية و21% بسبب الاستخدام الآمن. يتضمن السبب التمويلي محدودية الأسواق التجارية، والتوقعات بعدم كفاية عائدات الاستثمار، والتغييرات في أولويات البحث الناجمة عن اندماج شركات الأدوية.

لكن تعدّ عمليّات الإلغاء الناجمة فقط عن أسباب ماليّة، خرقاً للمادة السادسة من إعلان هلسنكي الذي يحدد المعايير المعترف بها دولياً لإجراء أبحاث سريريّة. تعلن المادّة السادسة من الإعلان: «فيما يخصّ الأبحاث التي تتضمن مواضيع بشريّة، يجب أن تحظى مصلحة الإنسان الذي وجد البحث لأجله بالأولويّة على كافّة المصالح الأخرى». يعني إيقاف الأبحاث قبل نهايتها لأسباب ماليّة بحتة بأنّ: «خطط الأعمال الربعية أو تغيير المسؤولين التنفيذيين» تحظى بالأولوية على «مسؤوليّة إجراء بحث طبي، وهي التي تتضمن واجباً اجتماعياً ومسؤوليّة أخلاقيّة، يجب أن تسمو فوق خطط الأعمال الربعية أو تغيير المسؤولين التنفيذيين».

هناك أدلّة كثيرة على حجب الكثير من البيانات الاختبارية عن السلطات التشريعية، وهو الأمر الذي يعدّ تلاعباً بالطلبات المقدمة. لم تقدم شركة ميرك لإدارة الأغذية والدواء الفدراليّة بيانات عن معدل الوفيات في الوقت الملائم لاثنين من اختباراتها التي تتضمن استخدام منتج روفيكوكسيب «rofecoxib» على المرضى الذين يعانون من الألزهايمر أو من غيره من أمراض الضعف الإدراكي. وقامت شركة غلاكسوسميثكلاين كذلك بتقديم بيانات لإدارة الأغذية والدواء الفدراليّة بخصوص منتجها للربو «سالميتيرول Salmeterol» يقلل بشكل جلي من المخاطر المصاحبة لاستخدام الدواء.

أحد أكثر الأمثلة شهرة عن الطريقة التي تغيّر فيها الشركات نتائج الاختبارات بين وقت رفع تقرير بالنتائج إلى السلطة التشريعيّة المختصة، وبين وقت نشر نتائج الاختبار الفعلي، هي دراسة فحص فاعليّة منتج «سيليكوكسيب celecoxib»، وهو الدواء غير الستيروئيدي المضاد للالتهاب ومخفف الألم الذي تصنعه شركة فايزر. فقد أكّد الاختبار المنشور، والذي اعتمد على بيانات مجموعة على مدى ستّة أشهر، الفاعليّة الحمائيّة المتفوقة للمنتج على بقيّة مضادات الالتهاب التقليديّة من حيث تقليل نزيف المعدة. لكن في حقيقة الأمر، فإنّ الدراستين المدموجتين في النتيجة المنشورة قد استمرتا لمدّة اثنا عشر شهراً وستّة عشر شهراً على التوالي. وتظهر كامل النتيجة التي امتدت ما بين 12 و16 شهراً عدم وجود فارق من حيث التأثير على الجهاز الهضمي بين المرضى الذين استخدموا منتج فايزر، وبين أولئك الذين استخدموا مضادات الالتهاب التقليدية.

يشير مصطلح «الكاتب الشبح Ghostwriter» في مجال الصناعات الدوائية إلى الممارسة التي تقوم فيها الشركات، أو من يعمل بالنيابة عنها، باستخدام صحفيّ طبّي لكتابة مقالة أو رسالة طبيّة بالاعتماد على البيانات المملوكة للشركة. يتمّ بعدها أخذ المقال إلى باحث أكاديمي من أجل وضع توقيعه عليها، ويفعل ذلك عادة من أجل المال أو من أجل أن يحظى بقيمة معنوية على منشوراته. عندما تظهر المقال في إحدى وسائل الإعلام، لا يتمّ ذكر الكاتب الشبح أو الإشارة إليه بأيّ شكل من الأشكال.

قامت شركة ويث بالدفاع عن الأرباح السنويّة 2 مليار دولار، التي تجنيها من مبيعات منتجيها لبدائل الهرمون بريمارين وبريمبرو، بالإشارة إلى أنّها تضطرّ لدفع مبالغ طائلة للكتّاب الأشباح. وذلك قبل وبعد نشر منظمة صحّة المرأة لتقريرها الذي يبيّن مخاطر هذين المنتجين التي تفوق نفعهما. تظهر وثائق المحكمة بأنّ الكتّاب الأشباح قد لعبوا دوراً رئيسيّاً في تقديم الأوراق العلميّة الستّة والعشرين التي دعمت استخدام بدائل الهرمون. لكنّها لم تكشف عن دور ويث في توجيههم لكتابتها ولا عن مقدار المال الذي تلقوه منها.

هناك عددٌ هائل من الأمثلة على عدم ذكر التأثيرات السلبية في النتائج المنشورة. فمن بين سبع وثلاثين دراسة عن أدوية لمضادات الاكتئاب عرضت على إدارة الأغذية والدواء الفدراليّة ولها إمّا آثار سلبية أو تثير المخاوف، فقط خمسة عشر دراسة نشرت غير منقوصة. يمكن لعدم نشر البيانات أن يقود للمبالغة في تقدير فاعليّة المنتجات والتقليل من ضررها. فقد قادت البيانات التي نشرت عن مضادات الاكتئاب إلى المبالغة في فاعليّة منتج «Reboxetine ريبوكستين» بنسبة 115% عن العلاجات البديلة له، وقللت كذلك من مضاره.

لقد تمّ الاعتماد على وثيقة خاصّة من داخل شركة غلاكسوسميثكلاين من أجل إظهار الفروق بين النتائج الفعليّة للدراسة التي تفحص سلامة وفاعليّة منتجها المضاد للاكتئاب «باروكستين Paroxetine» على البالغين، وبين النتائج التي تمّ نشرها. ادعت النتائج المنشورة بأنّ «إنّ باروكستين في الغالب هو الأكثر لطفاً وفعّاليّة لمعالجة الاكتئاب الشديدة لدى البالغين». بينما أتى في النتائج الأساسيّة والثانويّة للاختبار الوارد في المحضر الرسمي غير المنشور: «لم يتبيّن أنّ هناك أيّ فارق ذو قيمة فيما يخصّ الفاعليّة بين باروكستين وغيره من البدائل، سواء في نتيجتي المرحلة الأولى الأساسيين، أم في النتائج الستّة للمرحلة الثانويّة». كما تمّ ربط باروكستين بتأثيرات ضارّة، مثل زيادة الخيالات الانتحاريّة.

أخيراً، تعترف الشركات بوجود شرخ في مصداقيّتها عندما تتمّ مواجهتها بالأدلّة من قبل الأطباء. ومن أجل الالتفاف على هذه المشكلة، يقومون بتوظيف أطباء وباحثين يطلق عليهم تسمية «موجهي الرأي الرئيسيين KOL». إنّه لأمرّ حيوي بالنسبة للشركات أن تحافظ على الصورة الخياليّة لهؤلاء الأطباء والباحثين «الموجهين» بأنّهم مصادر مستقلّة للمعلومات، وذلك لأجل الإبقاء على ثقة الأطباء الذين يستمعون لآراء ومحاضرات «الموجهين».

لكنّ عندما يبدأ هؤلاء «الموجهون» بالعمل بشكل مستقل فعلي وينحرفون عن المسار الذي ترسمه الشركات، تبدأ قيمتهم لدى الشركات بالانخفاض. كتب جون نورتون عن أحد هؤلاء «الموجهين» الذين كتبوا سلسلة من التقارير بشأن أحد الأدوية، وأظهر فيها بأنّ المنتج محلّ الذكر هو أقلّ جاذبيّة من الأدوية التي تصنعها شركات منافسة. ما أن خرجت هذه التقارير إلى العلن، حتّى تناقص عدد الدعوات التي يستلمها لإلقاء المحاضرات من وسطيّ أربع إلى ستّ مرات شهرياً، إلى صفر.

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني