طريق طوكيو نحو أوراسيا
كارلا سيا كارلا سيا

طريق طوكيو نحو أوراسيا

لليابان خصوصية تاريخية لا خلاف عليها، فهي قوقعة دبلوماسية مؤسسة منذ قرون، على يد الإمبراطور، توكوجاوا إياسو، قوقعة خرقها نظام «الميجي» الإصلاحي، وامتدت آثار خرقه لها حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد إنهاك طويل للإمبراطورية اليابانية، قررت طوكيو أن الوقت حان للتوقف عن الدخول في تحالفات دولية، لاحتلال دول أخرى، وأن واجب الوقت حينها، هو الاهتمام بإعادة إعمار الداخل، وبالطبع كان للقبضة الأمريكية النووية دور لا يستهان به في تلك القناعة.

لأجل ذلك، فإن اليابان دبلوماسياً تشبه تلميذاً مثالياً مطيعاً، لا يعترف بأية إدارة لمدرسته، إلا «اليانكيز»، ولا يبدو لديها عموماً أي استعداد لتغيير هذا التوجه، فواشنطن تعتبر الحليف الأقرب والأكثر حميمية لطوكيو، لأسباب واضحة وصريحة، فهذه منطقة مشتعلة، و«الجنون» النووي الكوري الشمالي موجه لليابانيين دائماً وفي أي وقت، وظهورهم لجدار الصين، «جدار يريد أن ينقض دائماً على رؤوسهم»، وما زال يحتفظ بكل بالغضب كله منذ أيام احتلال اليابانيين لهم، مع فارق عسكري ضخم بين الجارتين، لمصلحة الصين، وعلاقات متوترة مع روسيا، على خلفية نزاع حدودي مديد.

في الحالات جميعها، لا يوجد شخص واحد في اليابان، بعقل سليم، سيقترح اغضاب الولايات المتحدة بأي شكل، أو محاولة تعكير هذه العلاقة، لأنها «الحامي الوحيد» لهم مما قد يحدث افتراضاً، إلا أن الأشهر الأخيرة حملت خطاً دبلوماسياً يابانياً غريباً، لا يمكن تجاهله.

نحو روسيا.. حل قضية عالقة

كانت خطوته الثانية هي معالجة الركود الاقتصادي الياباني، ولأجل ذلك هندس شينزو وحزبه منذ البداية خطة «أبينوميكس»، وهي خطته الاقتصادية الطموحة لمعالجة الوضع، منذ انتخابه في انتخابات اليابان العامة 2012، لفترة حكم ثانية، والقاضية بمعالجة الاقتصاد بالصدمة، بعد توقف نمو لقرابة 20 عاماً، وتقهقر في عام 2010 من المركز الثاني للثالث، كأكبر اقتصاد عالمي، على يد الجارة الغربية (الصين).

أما الخطوة الثالثة، فكانت محاولة صناعة تحالفات جديدة، وتسوية أحد النزاعات الدولية الرئيسة، وفي هذا الصدد لا يوجد أهم من روسيا، ونزاع جزر الكوريل التاريخي، محاولة كفيلة برفع أسهم شينزو وحزبه في الداخل أكثر.

مشهد تموز: نجاح ساحق

لم يتوقع أحد ما حدث، أو أن يكون نجاح الائتلاف الحاكم بهذه النسبة، يوم الاثنين 11/تموز من العام الحالي، عندما حصل «الحزب الليبرالي الديموقراطي» على 56 مقعداً من أصل 121 في مجلس الشيوخ، وحاز حزب «كومي»، رفيق الائتلاف، على 14 مقعداً، ليصل الإجمالي إلى 70 مقعداً، بزيادة تسعة مقاعد كاملة عما كان شينزو يأمله.

هذا الفوز غير المتوقع والساحق، أعطى الائتلاف الحاكم فرصة تعديل الدستور، للمرة الأولى منذ 70 عاماً، وتحديداً الفقرة التاسعة منه، التي تشجب الحروب، وتحرم على القوات اليابانية التدخل العسكري في أية دولة أخرى. فوز لم تنظر له الصين بعين الارتياح أبداً، بينما اعتبره شينزو تأكيداً على ثقة الشعب في أبينوميكس، وقرر تعزيز الخطة بحزمة معالجة اقتصادية، تبلغ 99 مليار دولار، في قرار يهدف إلى طمأنة الداخل.

المجتمع الياباني مقسوم تماماً

على الجانب الآخر، بدا وكأن شينزو يحشد تأييداً داخلياً متصاعداً للمشاركة العسكرية الخارجية، الأمر الذي يبدو وكأنه دخيل على طبيعة الشعب الياباني المسالمة، وتغيير لافت للتركيبة النفسية الاجتماعية لليابانيين، تغيير ربما يستحق دراسته باهتمام من قبل علم النفس الاجتماعي.

المثير للاهتمام أن اليابان تعاني انقساماً بالفعل حول هذا الأمر، وبالطبع لا يمكننا نسيان بداية القصة: في أثناء جلسة البرلمان التاريخية، يوم 19/أيلول من العام الماضي، الجلسة التي استطاع شينزو فيها دفع التشريع القاضي بإتاحة مباشرة القوات العسكرية اليابانية لعمليات قتالية، خارج الحدود ودون تعرض اليابان لاعتداء، جلسة أطلقت عليها الصحف العالمية «مباراة مصارعة»، وبدت أشبه بذلك فعلاً، بعد معركة كبرى ولكمات بين النواب بعضهم البعض، وفي ظل محاولة منع رئيس البرلمان من توقيع القانون بالقوة حينها، من قبل المعترضين.

وأيضاً، لا يمكننا نسيان المظاهرات الطلابية المعارضة، التي امتدت لشهور قبل إقرار التشريع، وخرج فيها آلاف الطلاب واليابانيين عموماً، واضعة لبنة جديدة في المعركة السلمية اليابانية، ولحراك لم يعهده الداخل هناك من قبل.

يمكن تمثيل ذلك الانقسام في مشهد بالغ البساطة، منذ ثلاثة أشهر، على موقع «اليابان اليوم»، وفي 13/حزيران الماضي، أجرى محررو الموقع استطلاعاً للرأي، توجهوا فيه لرواد الموقع بسؤال بسيط، مفاده: «هل تظنون أن قوات الدفاع عن النفس اليابانية (مسمى الجيش الياباني) والتي لم تشترك في أية عمليات قتالية، منذ الحرب العالمية الثانية، تستطيع أن تحمي الدولة من اعتداء خارجي، أو تستطيع ممارسة مهامٍ قتالية خارج الحدود؟».

أتى التعليق الأول ليقول إنه إن اضطلعت القوات اليابانية بمهام خارجية، فربما عليها تغيير اسمها من قوات «الدفاع عن النفس» إلى «قوات شنزو آبي الهجومية»، في معارضة واضحة لتوجه السؤال، بينما قال تعليق يليه مباشرة أن اليابان لابد وأن «تأخذ من أدوار الولايات المتحدة العسكرية، وأن تحمل أعبائها في الدفاع عن نفسها».

تنويه: إن الآراء الواردة في قسم «تقارير وآراء»- بما قد تحمله من أفكار ومصطلحات- لا تعبِّر دائماً عن السياسة التحريرية لصحيفة «قاسيون» وموقعها الإلكتروني