واشنطن.. وحملات تضليلها المكشوفة
علاء أبوفراج علاء أبوفراج

واشنطن.. وحملات تضليلها المكشوفة

 

لا تجد الولايات المتحدة وأتباعها اليوم مشكلة في أن تسند تصريحات تصدر عن أعلى مستويات الإدارة الأمريكية إلى «مصادر» لا يمكن وصفها إلا بأنها مراكز مشبوهة ومليئة بالترهات، بعد ذلك تحاول امتصاص فشلها المتكرر عن طريق تصوير نفسها ضحية «تلاعب ممنهج»!   

تناولت عناوين الأخبار العريضة خلال الأسبوع الماضي موضوعاً ساخناً، مفاده أن روسيا تعزز وتدعم قواتها في سورية بكثافة، وأنها أتمت نقل معدات وطائرات وآلاف الجنود، وتشارك بالمعارك الدائرة في البلاد بشكل مباشر، لتلحق هذه الموجة مجموعة من المواقف التي تباينت بين الترحيب بهذه الخطوة أو التنديد بها، والتي صبت في المحصلة في مصلحة هذه الحملة ومن يقف وراءها، علماً بأن هذه الحملة الإعلامية انطلقت من «تل أبيب»، وتلقفها الإعلام الأمريكي والغربي عموماً، ولكن اللافت أنها انتقلت، بأغلفة أخرى، إلى أقلام «اليسار الملكي» وبعض «قوميي النظم» لدى بعض وسائل الإعلام اللبنانية..!    

ما الذي جرى؟ وهل يعقل أن تتحول إشاعات إلى مستند لتصريحات وزير خارجية دولة عظمى؟ ما المقصود من هذا كله؟ ومن يقف وراءه؟ 

في البداية كان هناك..!

رصد الصحفي الإيرلندي «بريان ماكدونالد» انتشار هذا الخبر منذ بداياته حتى وصوله إلى تصريحات رسمية للمتحدث باسم البيت الأبيض «جوش ارنست»، وكانت النتائج التي خرج بها «ماكدونالد» صادمة فعلاً، فالقصة بدأت من موقع «Ynet» وهو موقع صهيوني يتبع شبكة «يدعوت أحرنوت»، ويعد نافذتها الإلكترونية، وهو يصدر بنسختين: واحدة بالعبرية، والثانية بالإنكليزية، وقام هذا الموقع بنشر خبر فحواه أن «روسيا قد بدأت بتدخل عسكري في سورية»، وتبين من خلال بعض الملاحظات التي ذكرها «ماكدونالد» بدقة، أن هذا الخبر دعّم بحملة كبيرة في وسائل التواصل الاجتماعي، ليحرز أرقام متابعات تعد الأكبر بتاريخ الموقع، وتعد أرقاماً كبيرة بالنسبة للمواقع «الإسرائيلية» الشهيرة.

بعد أقل من 24 ساعة نشر أحد ناشطي المحافظين الجدد وهو «مايكل فايس» مقالاً في الموقع الأمريكي «The Daily Beast» استند بمعلوماته إلى ما نشره موقع «Ynet». وتبع هذا المقال ظهور «إليوت أبرامز» من «مجلس العلاقات الخارجية» الأمريكي، الذي وصفه الصحفي «بريان ماكدونالد» بأنه: «مركز الأبحاث الأمريكي الأكثر تأثيراً في السياسية الخارجية» ليكمل نسج هذه القصة، التي لم تكتف بالتلميح للتدخل الروسي، بل ذهبت مواقع أخرى إلى الحديث بالتفصيل عن معارك يخوضها جنود روس في مناطق عدة داخل الأراضي السورية، لدرجة أن أحد المواقع ذكر أن الجيش الروسي خسر 103 جنود في معاركه بالرقة، بعد أن كانت تحدثت تقارير عن قتل 103 جنود أجانب مجهولي الهوية في اليمن!! 

«الإدارة الأمريكية» تظهر أخيراً!

انتقلت القصة في المرحلة التالية إلى المستويات الرسمية، ففي الثالث من أيلول، أي بعد ثلاثة أيام من مقال «Ynet» صرح «جوش ارنست» المتحدث باسم البيت الأبيض: «نحن على علم بأنه من الممكن أن الروس قد نقلوا طائرات ونشروا عناصر عسكرية في سورية، ونحن نراقب هذه التقارير عن كثب، وإذا ما ثبتت صحة هذه التقارير ستكون روسيا مزعزعة للاستقرار، وسيكون لهذا نتائج عكسية»، واستمرت هذه الأخبار بالانتقال والتضخم إلى أن أجرى «جون كيري» وزير الخارجية الأمريكية اتصالاً هاتفياً مع نظيره الروسي سيرغي لافروف ليعبر عن «مخاوف الولايات المتحدة من تقارير حول تعزيز روسيا لوجودها العسكري في سورية». على الرغم من أن الموضوع يبدو غير قابل للتصديق، ولكن هذا ما جرى! 

المثير في الموضوع أن كشف هذه الحقائق ليس بالأمر الصعب، فما قام به الصحفي الإيرلندي «بريان ماكدونالد»، لم يتعد تتبع هذا الخبر منذ ظهوره، ويستطيع أي شخص زيارة المواقع المذكورة والبحث عن هذه الأخبار وتدقيق التسلسل الزمني الذي يؤكد صحة سرد «ماكدونالد» للقصة.

رد روسي واضح وصريح

ما أن وصلت الأمور إلى هذا المستوى، حتى بدأت التصريحات الروسية الرسمية، بتوضيح الأمور بشكل لا يقبل الشك، فجاء في حديث لبوتين «نحن نزود سورية بدعم كبير بكل الطرق، من خلال معدات وطاقم من المدربين وقوات حربية، ووقعنا عقوداً كبيرة مع سورية بعضها يعود من خمس، إلى سبع سنوات مضت، ونحن ملتزمون بهذه الاتفاقات بالكامل»، في حين أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مؤتمر صحفي جمعه مع نظيره السوداني إبراهيم غندور في 9 أيلول أن «موسكو لا تنوي اتخاذ أية خطوات إضافية لتعزيز وجودها العسكري في سورية» وأن «موسكو تهدف من خلال تزويد الجيش السوري بالسلاح إلى تجنيب سورية تكرار المأساة التي شهدتها ليبيا، وأن الجهود في هذا الإطار تشمل أيضا إمداد دول أخرى بالسلاح، بما فيها العراق، وذلك للتصدي لخطر الإرهاب»، وازداد وضوح الموقف الروسي بعد تصريحات للافروف الجمعة 11 أيلول «أستطيع أن أقول مرة أخرى، أن خبراءنا العسكريين موجودون هناك لخدمة المعدات العسكرية الروسية، ولمساعدة الجيش السوري في استعمال هذه التقنيات وتدريب كوادره» وأضاف أن «موسكو تدعم ليس نظام بشار الأسد، وإنما صراع دمشق مع تنظيم داعش»

ما الذي يجري؟!

وضحت هذه المعلومات جزءاً من حملة الإعلام الصهيوني-الغربي التي كان لها ارتدادات في الصحافة العربية حتى وإن كانت على شكلٍ تهليلٍ للموقف الروسي «الجديد» إلا أن هذه الإرتدادات كانت تساهم في هذه الحملة، والحديث الأمريكي بأن «التدخل الروسي» سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة الذي جاء على لسان «ارنست» كان مدعاة للسخرية، وحسب ما قال «بريان ماكدونالد» واصفاً المشهد بأنه من المهم أن يحافظ المتحدث باسم البيت الأبيض «على ملامحه الجدية عندما يتفوه بهذا الهراء المنافق» إذاً ما الهدف من كل هذا؟!

لا يمكن الجزم باكراً بطبيعة الدافع وراء هذه الحملة، فالوجود الروسي في سورية يعود لعقود مضت ولم يكن يوماً غير معلنٍ، ووجهة نظر الروس في الحرب على الإرهاب معلنة «لا يمكن للحرب على الإرهاب أن تتم بدون تنسيق مع الجانب السوري، ودون معارك على الأرض يقوم بها السوريون بدعم دولي». ويجري هذا الدعم الروسي وفقاً للقانون الدولي ووفق اتفاقات موقعة بين الجانبين، على عكس الولايات المتحدة التي أنشأت تحالفاً لمجموعة دول يقوم بضربات جوية غير شرعية وتجري دون موافقة أو طلب من الحكومة السورية، بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة أعلنت أكثر من مرة عن قيامها بتدريب وتسليح مقاتلين في دول أجنبية للانتقال للقتال في سورية.

لا مجال للشك بأن هذه الحملة تحاول يائسةً خلط الأوراق للضغط على جميع الأطراف وابتزازها، فالأمريكيون اليوم يقفون عاجزين عن مواجهة التوسع الروسي في المنطقة الذي يجري بشكل معلن وبما لا يتعارض مع القوانين الدولية، مما دفعهم للالتفاف على الدور الأهم الذي يلعبه الروس في المنطقة عبر تهويل أخبارٍ كهذه، بالإضافة إلى أنهم سيحققون مكاسب جانبية مهمة مثل تأخير التقارب الروسي الخليجي، والتغطية والتشويش على أحداث تجري سواء أكانت داخل «التحالف الدولي» بقيادة واشنطن الذي بات يعاني من تخبط ملحوظ، أو حتى على الأرض. يعلن الروس وبشكل صريح أنهم سيواجهون أي توتر تشهده المنطقة وكان هذا جلياً في «أزمة السلاح الكيماوي» حين انتشرت السفن الروسية في المتوسط بشكل أكثر كثافة من السابق، ويدرك الجميع ضمناً أن إنهاء حالة «داعش» يعني الذهاب إلى حل جذري للأزمة السورية عبر الطرق السياسية، وهي مهمة لا تنوي الولايات المتحدة القيام بها، في حين يعمل عليها الروس وحلفاؤهم. وهذا يعني أن الإدارة الأمريكية ومن في ركبها يحاولون دائماً تأخير هذا اليوم الذي بات من الواضح أنه لن يتأخر كثيراً..