الاقتصاد المقاوم.. بدلاً من الريعي التابع  غريب لـ«قاسيون»: موجة حراك ثالثة تستند إلى ما قبلها

الاقتصاد المقاوم.. بدلاً من الريعي التابع غريب لـ«قاسيون»: موجة حراك ثالثة تستند إلى ما قبلها

في وقتٍ أجهز فيه شكل الاستقطاب السياسي اللبناني التحاصصي بين 8-14 آذار، في الانتخابات الأخيرة على «هيئة التنسيق النقابية»، بهدف إبعاد «التيار النقابي المستقل» عن المراكز القيادية للهيئة، اختار الأخير المواصلة في الشارع «للدفاع عن الناس والنضال ضد أوجاعها»، فمن أية زاوية يقيِّم رئيسه، الرفيق حنا غريب، المرحلة التي يمر فيها لبنان؟

يعجُّ الطابق الخامس من أحد أبنية حي «وطى المصيطبة» في بيروت بصورٍ تعود إلى تاريخ النضال النقابي في «بلدٍ تحكمه الميليشيات». إنه مركز «التيار النقابي المستقل»، حيث يستقبلنا رئيسه، حنا غريب، للحديث عن مروحة واسعة من الملفات.

حاوره: أحمد الرز- بيروت

ما هو موقع الحراك اللبناني في إطار التغيرات الجارية على الصعيدين العالمي والإقليمي؟

لا شك بأن هذا الحراك يأتي في ظروفٍ دولية وإقليمية متغيرة. وفي سياق هذه المتغيرات، تجري عملية إعادة النظر بخارطة المنطقة كاملة، بما يرافق ذلك من تقسيمٍ إلى دويلات طائفية ومذهبية متناحرة، وهذا ما كان يسمى بـ«الشرق الأوسط الكبير». المعركة لا تزال مفتوحة في وجه هذا المشروع الذي يتوقف تقدمه فعلياً على وجود العصبيات الطائفية والمذهبية وازديادها وتعمقها. وهذا ما يشكل خطراً على المنطقة كاملة.

اليوم تدفع منطقتنا الثمن، نتيجة للتناحرات المذهبية والطائفية، ونتيجة الأنظمة التي قمعت شعوبها، وحرمتها من حرياتها الديمقراطية ومن حقوقها الاجتماعية، تلك الأنظمة ذاتها التي شكَّلت المدخل للمشروع الأمريكي الصهيوني الذي استطاع أن يتسرب، عبر هذا المدخل، للانقضاض على المكاسب التي كانت محققة سابقاً، ولتنفيذ مشروعه التفتيتي.

في المنطقة، لم نحرر أرضنا بشكلٍ كامل بعد، ولم نتحرر اقتصادياً واجتماعياً، نتيجة أنظمة التبعيات، والمقايضة الحاصلة بين هذه التبعيات. وهنا، يدور حديثي عن الدول التي ما زالت تقول بجوانب التحرر والممانعة.. إلخ، فما بالك بنظامٍ سياسي تبعي للخارج بالكامل؟

ما هي الآليات التي يقوم عليها النظام التبعي في لبنان؟ وما دلالات توقيت الحراك الجاري؟

تشكَّل نظام التحاصص في لبنان- عبر اتفاق «الطائف»- من زعماء الميليشيات، وأمراء الطوائف، وحيتان المال- ممثلي رأس المال المصرفي بالدرجة الأولى، والعقاري بالدرجة الثانية. وبعد الحرب بشكلٍ أساسي، ازداد وزن هذه البرجوازية المصرفية داخل التركيبة البرجوازية، ونشأ هذا التحالف الفج بين البرجوازية المصرفية والعقارية، وبين أمراء الطوائف ورؤساء الميليشيات، على قاعدة اعتماد اقتصاد الخدمات الذي يهمش القطاع الصناعي والزراعي، أي ضرب الاقتصاد المنتج.

تحت هذا العنوان، جرى تحجيم دور الدولة، وضرب مضمون دورها الوظيفي الاجتماعي، كدولة للرعاية الاجتماعية، وتحويلها إلى دولة خصخصة ومحاصصة بين أمراء الطوائف ومع البرجوازية المصرفية. وجرى إدخال البلاد في ديون تصل إلى 70 مليار دولار، بعدما ضربت المدرسة الرسمية والجامعة اللبنانية والإعلام الرسمي.

وللمفارقة، فإن ثلث الدين العام اللبناني صُرِف على مشكلة الكهرباء، فنحن ندفع 2.7 مليار دولار على موضوع الكهرباء في كل سنة، من أصل 7.5 مليار دولار (الموازنة العامة)، وإلى الآن ليس لدينا كهرباء، بل يدفع اللبناني، إلى جانب فاتورة كهرباء الدولة، فاتورة الاشتراك، وكذلك المياه..! وهنا، يستطيع المواطن إذا قطعت لديه المياه أن يذهب لشرائها من السوق، وإذا قطعت عنه الكهرباء أن يدفع لقاء الاشتراك، لكن إذا تراكمت النفايات في الشوارع فماذا سيفعل؟ سينزل إلى الشارع..!

كيف تفسِّر الاستعصاء الحاصل في أزمة النفايات؟

سابقاً، كانت البلديات هي المسؤولية عن موضوع النفايات. لكن- وفي ظل سياسات الخصخصة- جرى نهب أموال البلديات عبر «تلزيم» النفايات لصالح شركة «سوكلين»، وتحاصص أقطاب النظام أموال هذه الشركة بين بعضهم البعض. فبات كل زعيم يملك «مزبلة» أو «سوكلين» خاصة به ليقوم بجني أرباحها. ومشكلة النفايات اليوم تكمن في أنه لا أحد من هؤلاء المرابين وسارقي المال العام يقبل بالتنازل عن حصته من الربح.

نشاهد اليوم أن الحراك قد ذهب أبعد من مشكلة النفايات، إلى أي مدى يستطيع أن يحافظ على استمراره برأيك؟ وكيف يمكن تحقيق الشعارات المطروحة؟

في ظل مناخ الانقسامات العمودية، فإنه بمجرد أن يخرج حراك من نوعٍ آخر، ليعيد خلط الأوراق على أسسٍ صحيحة، بحيث يصبح الفرز على أساس القضايا الأساسية التي تهم الناس، فهذا بحد ذاته إيجابي ومهم، لأن قضايا الناس المعيشية والحياتية والمباشرة عادت لتفرض نفسها. ليصبح الاختلاف على أساس: من مع حقوق الناس، ومن ضدها؟ ليس على أسسٍ عابرة.

أفترض أن هذا الحراك هو ضمن الموجات الثلاث للحركة في لبنان. الأولى: هي حراك «إسقاط النظام الطائفي» 2011، حيث شارك فيه ما يقارب 30 ألف متظاهر، وقامت قوى السلطة في 8 و14 آذار بمحاولات لخرقه وضربه من الداخل، ونجحت في ذلك. الثانية: هي حراك «هيئة التنسيق النقابية» الذي فتح ملف سلسلة الرتب والرواتب، والملفات الاجتماعية والصحية والمعيشية على أوسع نطاق، واستمر في المواجهة ثلاث سنوات، وبالطبع كان وليد الحراك الذي سبقه، واستطاع أن يشرك 100.000 متظاهر، حيث كانت سلسلة الرتب والرواتب تطال من 150 إلى 200 ألف موظف، ومع عائلاتهم يصل الرقم إلى مليون. أعتقد اليوم أن هذا الحراك الذي بدء بملف النفايات، والذي يطال كل الشعب اللبناني، جاء من رحم حراك هيئة التنسيق. وهنا، تعتقد السلطة أنها كلما ضربت موجة من هذه الحراكات فإن أزمتها ستحل، لكن تبين العكس.

ماذا عن دور الـ«NGOs»؟ وإلى أي الحملات حنا غريب أقرب؟

فيما يخص الـ«NGOs»، غالباً ما تقوم هذه الجمعيات بحملات تطال النتائج أكثر مما تطال الأسباب، حيث تحكم فكرة «الترقيع» منطق عملها، ولا صوت لها في القضايا الأساسية، كالخصخصة والهدر والفساد. وحملات الـ«NGOs» لا تطرح حلولاً لها طابع مستدام، بل تهتم بالنتائج فقط. هذا عدا عن الجمعيات التي يحكمها المال السياسي الخارجي.

أنا أقرب اليوم إلى حملة «تحرك 29 آب»، أي إلى الحملات التي لها علاقة بمطالب الناس، ففي 29 آب، جمعنا أكبر عدد من المتظاهرين. وحتى لا يتحول هذا الحراك إلى رقم من أرقام الحراكات التي سبقته، يفترض به أن يكون حراكاً نوعياً يؤدي إلى عملية خرق أو تغيير، ولذلك فأمامه الكثير من الصعوبات. وأقول ذلك، كيلا نحمل هذا الحراك أكثر مما يستطيع أن يحمله.

اليوم، تتقدم التجربة في إطار العمل خطوات نحو الأمام، ولا تعود إلى الوراء. هل هذه التجربة كافية؟ كلا، بل تحتاج إلى بلورة أكثر. أرى أن المعركة طويلة في هذا الحراك، وتحتاج إلى نفسٍ طويل كي تبني قيادات على الأرض، وعلى صعيد المناطق، حيث يجب أن تكون هناك قيادة لهذا الحراك في المناطق، كالجنوب والجبل والشمال. إلخ..

في هذا الصدد، يدور الحديث عنك وعن د. شربل نحاس، كشخصيات يجب أن تكون فاعلة وقيادية في هذا الحراك، ما رأيك بذلك؟

لكي أكون صريح معك، نظراً للشعارات التي رفعها الناس في وجه السلطة الفاسدة المكونة من 8 و14 آذار، من الطبيعي أن يبرز فيها اسمينا، الدكتور شربل وأنا, فشربل دخل من «التيار العوني» إلى هذه السلطة، وجرب العمل من الداخل، فقام هذا التيار فعلياً بترك شعاراته داخل مجلس الوزراء عندما ترك شربل نحاس وحيداً. وكذلك عندما اصطف مع 14 و8 آذار خلال الانتخابات، وخلال فترة نقاش موضوع سلسلة الرتب والرواتب، ليس في وجه حنا غريب فقط، بل حتى في وجه إبراهيم كنعان عندما وضع مشروع السلسلة ولم يتحمله التيار، فترك البلد وسافر إلى باريس.

وبما أنه كان لنا تجربة مع نظام التحاصص- وكثيرون رأوا أنه كان هناك مصداقية في خوض هذه المواجهة- فمن الطبيعي أن يجري تداول اسمينا. أما هل نحن الاثنان كافيان؟ كلا، فنحن جزء من هذا الحراك، وكل فشل فيه، هو فشل للجميع، وكل نجاح فيه هو نجاح أيضاً للجميع. هناك ضرورة ليكون هناك قيادة، لكن المسألة ليست مسألة اسم أو اسمين، من الممكن لهما أن يقدموا قيمة مضافة، لكنهما غير كافيان بالطبع.

إذاً، ما هي المهمات المطروحة اليوم أمامكم في «التيار النقابي المستقل»؟

هذا التيار، ضمن إطار عمله، هو وليد هذه المواجهة مع نظام التحاصص، فلولا هذه المواجهة لما كان هناك تياراً نقابياً مستقلاً من خارج الهيئات. وأقول، التيار النقابي المستقل لن ينتظر «هيئة التنسيق النقابية» كي تتحرك من أجل حقوق الناس. فإذا لم تتحرك هذه الهيئة في هذه اللحظة مع الناس، متى تتحرك؟

لذلك، كان موقف «التيار النقابي المستقل» الانخراط في هذه المعركة، داخل «هيئة التنسيق النقابية» لدفعها إلى النزول للشارع، وفي الخارج، عبر المشاركة الفاعلة على الأرض. وتبين أن من يدافع عن الناس ويناضل ضد أوجاعها هو التيار النقابي المستقل، أما «هيئة التنسيق» فقد حيدت نفسها، فيما «الاتحاد العمالي العام» يكتسيه الغبار منذ زمان بعيد.

الآن، نحن في طور بناء هذا التيار. حيث لا يزال عمره صغيراً، ويجري دفع المستحقات المالية لهذا المركز الذي نستخدمه من خلال الاشتراكات الشهرية للأساتذة، ولدينا اليوم عدة فروع في المناطق. وفي النهاية، المهم هو القضية، فمن يحمل القضية يستطيع السير إلى الأمام، إذ أن هذا الفراغ النقابي يحتاج إلى من يملأه فعلاً.

هناك من يقول إنه لا يمكن وضع إشارة مساواة بحجم الفساد بين القوى الموجودة في الحكومة كلها، بما فيها قوى المقاومة، ما رأيك؟

سأجيب عبر استذكار ما جرى في حرب تموز 2006. ففي هذه الحرب، وقف السيد حسن نصر الله وشرح في خطاباته أن أطرافاً معينة كانت تتآمر على المقاومة خلال الحرب. إذ أن جماعة 14 آذار طلبت من كونداليزا رايس أن يواصل الصهاينة بالضرب حتى الانتهاء من «حزب الله» والمقاومة. فما الذي يفسر قرار الحزب بعد الحرب بالشراكة مع هذه القوى التي تآمرت لضرب المقاومة؟ إذ تجلت هذه الشراكة في وجه التيار النقابي المستقل داخل العمل النقابي. كيف يمكن تفسير ذلك؟

نحن الناس الذين قاتلنا وواجهنا وكنا نحمل دماءنا على أكفنا في حرب تموز. لسنا مستجدين على المقاومة، بل إن مفهوم المقاومة متكامل، لا يقتصر على تحرير الأرض فقط، بل تحرير الإنسان أيضاً عبر التغيير، تحريره من الفقر والعوز والجهل. فتأمين كرامة الإنسان لا تكون في وجه «إسرائيل» فقط، بل كرامته يجب أن تكون مرفوعة في لقمة عيشه وفي فرصه للعمل بدلاً من الوقوف عند باب «البيك». لا يستطيع الإنسان أن يكون بطلاً في وجه «إسرائيل»، وفي الوقت ذاته ذليلاً عند أمير طائفته.

المقاومة لا تستوي على «قدمٍ واحدة»، ولذلك نخلق المقاومة على كافة الاتجاهات، في النقابات وفي العمل الاجتماعي، واستشهدنا في المظاهرات المطلبية من أجل رغيف الفقراء، واستشهدنا خلال مقاومتنا في وجه «إسرائيل». ببساطة، نستطيع أن ننجز هذه الأمور جميعها، فجمهور المقاومة هو جمهور واحد، لا يقبل الذل والهوان لا في الموضوع الأول ولا الثاني، لذلك لا يجب أن يكون هناك فصل تعسفي وميكانيكي في موضوع المقاومة.

الأسوأ من ذلك كله، أن الخطر على المقاومة من أين له أن يدخل؟ من نقاط الضعف بكل تأكيد. ونقاط الضعف هذه هي الفقر والجوع التي يدخل العدو من خلالها، إذ أنك لا تستطيع أن تقاوم بشكلٍ صحيح إذا كان شعبك جائعاً. تأمين الحاجات الاقتصادية والاجتماعية تبني اقتصاداً مقاوماً، علينا أن نبني هذا الاقتصاد المقاوم بدلاً من الاقتصاد الريعي التابع الموجود لدينا، والذي لا يخدم المقاومة.

وإذا كانوا غير قادرين على المقاومة في الجانب الاقتصادي الاجتماعي، فليتركوا غيرهم على الأقل ينجز هذا الجانب، ليتكاملوا معه. لا أن يتحالفوا مع الطرف النقيض ويسكتوا عن أخطائه. فما الذي يبرر بقاء «هيئة التنسيق» في الشارع لثلاث سنوات تطالب بسلسلة الرتب والرواتب، دون أن يتقدم أي حزب من الأحزاب الحريصة على موضوع المقاومة للمشاركة؟ هل عليَّ أنا أن أميز هذا الحزب أو ذاك؟ أم عليه هو ذاته أن يميز نفسه؟ في الواقع، لا بديل عن بناء الخط الذي يخرجنا من الحفرة التي أوقعنا فيها نظام التحاصص، وهؤلاء الناس في الطرقات يحاولون الخروج من هذه الجورة اليوم.

أمام تهتك الأنظمة وتغيرات موازين القوى، ما هو البديل المطروح اليوم عالمياً؟

جوهر كل الحراكات التي مرت على المنطقة العربية في تونس ومصر وسورية. إلخ.. كان لقمة الناس، حيث كان الملف الاقتصادي الاجتماعي أساسياً في خروجها إلى الشارع. ما حصل مع هذه الحراكات أنه جرى التعاطي معها بمنطق القمع، هذا القمع ساهم بتسهيل نشوء التشوهات التي يريدها الغرب. وبالنسبة لهذه الأنظمة، فإن فلا شك أن الإرهاب أقرب لها من التيارات اليسارية والنقابية والتقدمية والديمقراطية.

وفي ظل موازين القوى الحالية، لا بد، كمقدمة، من العودة لتعزيز الدور الاجتماعي والصناعي والخدمي للدولة. يجب تثبيت أنظمة تبني أوطاناً، فالأنظمة التي لا تستطيع أن تبني أوطاناً لا تستطيع أن تبني دولاً كذلك. في لبنان، لا بد أن يكون السقف هو إسقاط هذا النظام، لأنه لا يستطيع أن يبني وينتج دولة، وبالتالي هناك ضرورة لتغييره.

وفي هذا الصدد، فإن نظام السوق يعظم السلعة على الإنسان، فالسلعة أولاً ومن ثم الانسان. والمهم في هذا النظام هو أن يعمل السوق. لهذا، ولعوامل أخرى، يجب في المرحلة الأولى أن نبني نظاماً وطنياً ديمقراطياً مقاوماً يستند على أساس الاقتصاد المقاوم المنتج، كمقدمة، ومن ثم ما نطرحه دائماً: الاشتراكية.

 

حنا غريب

• مواليد طرابلس، 1953

• خريج الجامعة اللبنانية، قسم الكيمياء

• مدرس مادة الكيمياء للمرحلة الثانوية

• عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني

• أحد مؤسسي «هيئة التنسيق النقابية» بعد الحرب

• رئيس «التيار النقابي المستقل» 2015