المناضل العربي الاسير جورج عبد الله “إنّه أشجع منّا جميعاً ” ..
بقلم :ضيف حمزة ضيف بقلم :ضيف حمزة ضيف

المناضل العربي الاسير جورج عبد الله “إنّه أشجع منّا جميعاً ” ..

من حيث هوالآن في سجنه، يقطّع العتمة بسكين الصبر، ويستدرج تقاطيع الضوء إلى آنيّة طعامه  وكأس شرابه، لاشيء يخفّف آلام المعتقل وسنواته التي تتساقط من لحيته المشذّبة بقليل من أصابع اليد  فحسب.

يعود مرّة أخرى المناضل العربي جورج عبد اللـه إلى واجهة هذا العالم القذر، حتى يصحح أعطاب دولابه، وينقح كسور حروفه، ويستل من تراكمه وإسفافه على الظلم، جسراً لا يسع سوى المؤمنين بقضيّته على قلّتهم .

ثلاثون عاماً في حجرة بخيلة الأبعاد، مكيّنة السقف، كأنّها مقبضٌ قاسٍ يطوّق بلطف هندسي تتراوح  مساحته بين النحول والسُمك؛ جسداً بشرياً يحمل على أكتافه المتعبتين فلسطين بكل أبعادها وتخومها.

وبشيء من القلق تحركت رجلاهُ خارج بوابة السجن  المسجّى بالحديد والأسمنت إلى المحكمة، ليقول مرّةً أخرى بأنّه غير نادم بكل ما يستشفّه الإطلاق من شساعة وترامِ، على ما دفعه لأجل فلسطين ولقاء مقاومتها من أجل حقها في رفع الظلم الملقى على أعتابها، أمام جبن عربي آخذٌ في التكاثر والاتساع أكثر، فيما تتقلّص سعة الرفض وتنحسر رقعة المواجهة وتتضاءلُ ضخامة الإيمان بشرف المسمّى، إلى الحدّ الذي تنتقل فيه كل الأقانيم الشريفة من رحابة المعنى إلى قواميس اللغة،  بكل مُكر ودهاء وانزياح فريد الأسى والأسف .

كم عام تحتاجه يا رفيق، حتى تزيّت عجلة واحدةً فقط  في عربة عنادك، أوتقطع الصوت المنساب من قرقعة حذائك ، وأنت تكيّف المسافة بين الجدار الأخير للسجن وباب المحكمة الأول لطقسك الموسيقي الخاص، يسندكَ  في ذلك حرّاس دسميْ الملامح ، وأصفاد ثقيلة الوزن، ومستديرة الهندسة.

 شيئاً فشيئاً .. خطوةً فأخرى .. يستحيل الحارسان إلى مقتطف هوائي سميك وشفاف ما إن يصلان إلى خارج المعتقل، بينما تسيل الأصفاد على رجليك كأنّهم خصلة من ثلج فاجر الخيانة وخلبيٌ الإخلاص .  ربما كل سجّان لمقاومٍ في هذه الحياة يتدرّج في الفقد كلما أوى إلى عتبة الخروج، كأنّه كان يستمدّ لونه القاتم من هواء الحجرات الكثيرة، ومن اصطفافهنّ على قائم أفقي واحد ، كأنّهن حرسٌ يؤدون التحيّة لقائدٍ شطفه الغرور وأحسن نحته.

ثلاثون عاماً تتساقط من معطفك شتاءات متتاليّة، ولا شيء يحجب امتزاج الفصول مع بعضها سوى أنّك ترسم حدودها كل عام، ثم تُقفل عائداً بروحك إلى معتقلك الذي لم تغادره أصلاً، تضبط الساعة كأنّ العقربان فقط  هما من يشعران بقدرتك على أن تتخلل حركتهما، وتصحّح مسارهما بقليل من الانتحاء على سريرك فقط .

يستغربونك يا جورج كثيراً  وربما  يحسدونك  في قرارة أنفسهم، كيف كنت نصيراً ضمنياً لما قالهُ رفاقك في “الجبهة الشعبيّة ” هاتفين: ” أصمد أصمد يا رفيق، مثل “الراعي” في التحقيق” .

أدرك جيداً وأنا في أرض الشهداء هذه، أن من يقاسمك السجن هو وديع حداد وإبراهيم الراعي والحكيم جورج حبش، فما إن تصمت عن تمتمتك أوغنائك أوحلمك، حتى يشرعون في الغناء لك  من جديد، أوتذكيرك بفلسطين التي لا تنام في قلبك حتى تصحومرةً أخرى، إنّها لعنة جميّلة يا رفيق،  هي تعرف جيداً كي تمْثُل إلى منصة القلق كأنّها أمٌ رءوم وكفّ حانيّة وحضن زاخر الدفء، حتى في أقسى ظروفها جروحاً وكلوماً  ؛ تغطي بنصف جديلتها دمعةً تنبجس من عينك اليسرى ، عندما تغطي كفك  الأخرى عينك اليمنى في إغفاءة تنهمر منها ذكريات  غزيرة  .. حيث رفاق طيبون كثيراً يجلسون على منضدة مستديرة يديرها الحكيم .. أوأرواح تتوهج كعرائس الضوء في السماء … أوحبيبة التهم نصف انتظارها يأس لذيذ .

رفضت محكمة مرتبكة إطلاق سراحك متخيّلة أنها تحجب “عكّار” عن رؤيتك، بينما أنت تره  في كل آن وحين، حيث يشرئب عنق لبنان في  كل مفترق أسير لكي يشاهدك، إنّه يعيد لعبته المفضلة معك، كأنّه  استحال إلى فتىً  طري الدعابة، وأنت لا تزال غضّ غرير الوجه، مصقول الملامح كوجه نبي تأخّر عنه الوحي قليلاً .

هم لا يعلمون بأن حبك لفلسطين ولبنان، وإيمانك بأن الحريّة لا تتجزأ، وبأن دماء شهدائهما هوالبلسم الذي تبلّط به جروح روحك في لحظة تآلف بشري عابر مع ضعف  خفيض الصوت جداً .

لقد قالتها محاميّتك ذات مرة  وكان عليهم أن يحفظوها  جيداً : “إنّه أشجع منّا جميعاً ” ..

تحت شعار “وطن واحد وشعب سعيد” التحق جورج عبد اللـه بالمقاومة الفلسطينيّة ممثلةً في ” الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين”، مدافعاً عن لبنان وفلسطين سويّةً، دعاه النضال إلى تلافي جروحه إبّان الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان 1978، ثم بعد أن تواتر في المقاومة وبلغت من نفسه مبلغ الدم الجاري في العروق، اعتقلته السلطات الفرنسيّة سنة 1984 مدججةً بالموساد وبعضاً من العملاء بحجّة امتلاكه لأوراق ثبوتيّة جزائريّة مزيفة، ثم بعد انجلت براءته من تلك التهمة، أسدت فرنسا وعداً مكذوباً للجزائر بإطلاق سراح جورج عبد اللـه، سرعان ما نكثت وعدها تحت ضغط غرورها أو صلف الموساد الإسرائيلي، وأصرت على تثبت حكمها في منتصف الثمانينات، لتتطور التهمة في ظرف قياسي ودرامي  من حيازة أوراق مزيفة إلى امتلاك متفجرات وأسلحة، دون أن تشعر العدالة الفرنسيّة بأي خلل منطقي من تحوّل التهمة في وضع غرائبي سينمائي ركيك السيناريووفاشل الإخراج، ثم أصدرت بحقه حكماً  تبعاً لذلك  حكماً يقضي بالسجن  لمدة أربع سنوات كاملة، رفضها جورج محترماً الأسس الدستوريّة في ذلك البلد بعدم الاعتراض عليها، والاكتفاء بحقّ الرفض لحكم يسوده عوار إجرائي فاضح .

 بعد عام واحد من إصدار الحكم بحقه سنة 1987، تُعاد المحاكمة من جديد بطلب من النيابة العامة، لكي تضاف إلى رصيده تهماً أخرى تكشف عن حجم الحقد الذي بدا كــ” كرة ثلج”، كلما مرّ ردح من الزمن على حركتها، كبرت أكثر وأضحت ضخمت بما لا تسعه عين من احتمالات الرؤية .. وكان نصّ الاتهام الجديد هذه المرة  هو”التواطؤ والتحضير لأعمال إرهابيّة داخل التراب الفرنسي تستهدف اغتيال الملحق العسكري الأمريكي وأحد الدبلوماسيين الإسرائيليين وقنصل أمريكا في ستراسبورغ”، أفضت بحسب ديباجة الاتهام  الضخم هذا إلى الحكم المؤبد .

وفي العام 2003 بقيت المحاكم الفرنسيّة محافظةً على وفائها لجورج من أجل ستر فضيحتها القانونيّة، فلقد أصدرت حكماً بالإفراج المشروط، وما إن حُددت الآجال الشكليّة لإطلاق سراحه، حتى طعنت النيابة في الحكم بالاستئناف بناءً على طلب وزير العدل الفرنسي الذي رضخ لضغوط صهيونيّة مستترة لم تغب حتى عن بعض الأقلام الفرنسيّة الحرّة ، ويستمر الاعتقال من جديد في شكله التعسفي ..

في أولى تباشير العام 2010 رفض الأسير العربي اللبناني جورج عبد اللـه إعادة طلب محاكمته، مستيقناً بأن الضغوط الأمريكيّة والصهيونيّة أكبر من المحاكم الفرنسيّة، ورافضاً لابتزازه بالتخلي عن معادة إسرائيل والتفريط في دماء شهداء الحق الفلسطيني واللبناني  ومقايضة ذلك بإخلاء سبيله …

الرفيق جورج عبد اللـه هذا اليساري الجميل الذي يعيد إلى اليسار من حيث أنه مكوّن رافض للهيمنة نسغه الأوليْ، يرفض الآن  ثمانيّة طلبات لإخلاء سبيله، ويعلن للمرة الألف أنه غير نادم البتة عن مساره النضالي من أجل فلسطين ولبنان.

هل يعقل أن يُبقي لنا الزمن إنساناً مثل هذا، قضى ثلث قرن في معتقل ظالم، ومع ذلك يصرّ على الاعتصام بمبادئه النضاليّة، فيما هي كلمة واحدة يقولها، فيطلق سراحه على الفور : أنا ” نادم”!

هو لم يقلها ولن يقولها قطعاً، مادام هنالك يقين بأن سجنه هو حريته الوسيعة، وحريّة غيره هي معتقل فسيح..

 تحيّة لك يا جورج عبد اللـه رفيقي …. ووالديْ.

 

كاتب جزائري

آخر تعديل على الإثنين, 09 آذار/مارس 2015 17:07