عن واشنطن التي لا تستطيع حمل بطيختين بيد واحدة!

عن واشنطن التي لا تستطيع حمل بطيختين بيد واحدة!

«تنشغل واشنطن بالمعركة الجارية في أوكرانيا، وتارةً أخرى تنشغل بموضوع تايوان، وثالثة بانتخاباتها الرئاسية، ورابعة بالنصفية، وخامسة بالعدوان على غزة، وهكذا...

وبينما هي غارقة في انشغالاتها المتعددة، تنسى وضع استراتيجية خاصة بها لسورية أو للبنان أو للسودان وإلخ. وبطبيعة الحال، خلال انشغالاتها هذه، تتحول الملفات المهملة والمنسية إلى ملفات مرفوعة على الرف، وإلى ملفات خارج سلم الأولويات الأمريكية».
الكلام أعلاه، ليس اقتباساً من كاتبٍ أو محلل سياسي أو سياسي بعينه، بل هو تجميعٌ لمقولة واحدة تتكرر في آلاف وربما عشرات ومئات آلاف المقالات والبرامج الإعلامية والتصريحات السياسية.
الطريف في المسألة، أنه يجري تكرار هذا الكلام بوصفه مسلّمةً أو بداهة مطلقة الصحة، يتم اعتمادها دون أي نقاش، ومن ثمّ البناء عليها. والأكثر طرافةً هو الصورة الإجمالية التي يقدمها هذا الكلام عن «القوة العظمى الأمريكية»، بما في ذلك بأقلام مؤيديها ومرتزقتها؛ فهذه «القوة العظمى» وفقاً للمنطق الذي يستخدمه أصحاب هذه المسلّمة، عاجزةٌ عن حمل بطيختين بيدٍ واحدة، وهي أكثر من ذلك: رجلٌ يؤلمه رأسه من شدة الانشغال بملفات بعينها فيركز عليها، ويُنَحي الملفات الأخرى جانباً.
المنطق الاختزالي والتبسيطي، بل والهزلي، الذي يشبّه دولة بحجم ونفوذ الولايات المتحدة الأمريكية، بإنسانٍ منفرد له ذراعان لا يمكنه أن يحمل في إحداهما بطيختين في وقتٍ واحد، ليس مجرد ضيق أفقٍ معرفي وسياسي مزمن، (مع أنه كذلك فعلاً لدى البعض)، ولكنّه في كثير من الأحيان، أداة في التغطية والتعتيم على حقائق أكبر تختفي وراء هذا النوع من المقدمات التحليلية الساذجة...
القول بأنّ الملف الفلاني ليس بين أولويات واشنطن، أو أنّ واشنطن ليست لديها استراتيجية محددة بما يخص ملفاً من الملفات العالمية، أو أنها منشغلة عنه بهذه أو تلك من الأزمات حول العالم، كلها أقوالٌ تحاول أن تخبّئ تحتها الحقائق التالية:

أولاً: لدى الولايات المتحدة استراتيجيتها الشاملة للصراع العالمي، واستراتيجياتها الفرعية لكل منطقة من مناطق الصراع الأساسية. هذه الاستراتيجيات شاملة بطبيعتها؛ فليست هنالك في الحقيقة استراتيجية منفصلة تماماً خاصة بسورية مثلاً، بل استراتيجية خاصة بـ«الشرق الأوسط بأكمله»، واستراتيجية جزئية منها، خاصة بسورية. وهكذا بالنسبة للعراق ولأفغانستان وللبنان ولفلسطين وإلخ.
ثانياً: القول بعدم وجود استراتيجية محددة خاصة بملف محدد، والذي يكافئ القول بأنّ الملف الفلاني ليس أولوية أمريكية، كلاهما يعني أحد أمرين؛ إما أنّ تلك الاستراتيجية المتعلقة ببلد ما، لا تتكلل بالنجاح المطلوب، وبالتالي من المفيد القول: إنه ليست هنالك استراتيجية؛ لأنّ الاعتراف بوجود استراتيجية وبفشلها هو خسارة إعلامية-سياسية ينبغي تجنبها ما أمكن. أو أنّ الاستراتيجية تسير وتتقدم فعلاً وتحقق نتائج جزئية متتالية وليس من المفيد فضحها قبل الأوان، لأنّ ذلك يمكن أن يهدد اكتمالها.
ثالثاً: يستخدم القول بعدم وجود استراتيجية أمريكية اتجاه ملفٍ من الملفات، على الخصوص عند الحاجة إلى التنصل من مسؤولية تلك الاستراتيجية بالذات (غير المعلنة) عن الدمار والخراب والفوضى الذي هو هدفها الأساسي... أكثر من ذلك، فغالباً ما تكون التصريحات السياسية الأمريكية الخاصة بملفات بعينها معاكسة للسلوك والعمل الفعلي الأمريكي اتجاهها، وما جرى ويجري في سورية هو مثال من عشرات الأمثلة على هذه الطريقة في العمل.
رابعاً: على المستوى العام، يعبر التكرار الكثيف للحديث عن انشغالات أمريكا وعن عدم وجود استراتيجيات تفصيلية لها في الملفات المختلفة، جزئياً على الأقل، عن أنّ «القوة العظمى» لم تعد كما كانت، وليست قادرة فعلياً على قيادة الصراع والفوز فيه في كل الحلبات بالتوازي؛ ولذا يصبح من الضروري اختلاق أدوات تحليل معطوبة والنفخ بها... أدوات من قبيل انشغال واشنطن بانتخاباتها الداخلية، وبـ «لعبتها الديمقراطية التي تتكرر كل أربع سنوات، والتي يمكنها أن تغير الاستراتيجيات»... وهنا أيضاً يجري استخدام قنابل الديمقراطية الدخانية، والصراع بين الفيل والحمار، بوصفه محدداً أساسياً للاستراتيجية، في تعميةٍ واضحة على مركز القرار الحقيقي في الولايات المتحدة، والذي بقي طوال عقودٍ عديدة في يد أصحاب البنك الفيدرالي الأمريكي، أياً تكن وجوه وأحزاب الرؤساء الذين يتولون السلطة الرسمية.
خامساً: في خصوصية الزمن الذي نعيشه، فإنّ الحديث عن «عدم وجود استراتيجية واضحة»، وإنْ لم يكن صحيحاً في جوهره فيما نعتقد، إلا أنه يُعبّر جزئياً أيضاً عن حقيقة تفاقم الانقسام الداخلي ضمن النخبة الأمريكية؛ وهذا الانقسام هو نتيجة طبيعية لفعل قانون موضوعي لا مفر منه، وهو أنّ القوى المتراجعة -بالضرورة- تنقسم على نفسها.

حول عدم وجود استراتيجية أمريكية في سورية

الزعم بأن سورية ليست أولوية، وبعدم وجود استراتيجية أمريكية فيها، يسمح بالعمل لتمرير تلك الاستراتيجية التي بات عنوانها الرئيس هو «خطوة مقابل خطوة»، ويسمح ضمناً:
من جهة: بتنويم المعارضة السورية وصولاً لإنهائها، وخاصة منها تلك التي ربطت نفسها بالغرب وبالأمريكي، ومع إنهائها إنهاء القرار 2254 وإنهاء الحل السياسي.
ومن الجهة الأخرى: يدخل الحفاظ على جزء من الخطاب السياسي والسلوك السياسي الأمريكي السابق تجاه سورية، في إطار استخدام العصا والجزرة، وصولاً إلى إنفاذ المشروع وتحقيقه.
بالمحصلة، فإنّ أولئك الذين يزعمون عدم وجود استراتيجية أمريكية تجاه سورية، هم إما يعرفون تلك الاستراتيجية ويخفونها في إطار خدمتها والعمل على تحقيقها وإضعاف الاصطفاف الشعبي الطبيعي ضدها، أو أنهم مقتنعون فعلاً بعدم وجود استراتيجية خاصة بسورية... وهؤلاء لا نفع من محاولة علاجهم!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1169
آخر تعديل على الإثنين, 08 نيسان/أبريل 2024 12:45