الأمريكي ليس كاذباً فقط.. ولكنه عاجزٌ أيضاً..

الأمريكي ليس كاذباً فقط.. ولكنه عاجزٌ أيضاً..

نشرت قاسيون في عددها قبل الماضي، أي قبل أسبوعين، مادة تحت عنوان: «حول خرافة إغلاق الحدود السورية العراقية».
ناقشت المادة في حينه ما يجري ترويجه سواء عبر أبواق أمريكية مباشرة، أو عبر متشددين ضمن النظام وضمن المعارضة، من أنّ الأمريكان بصدد وصل الجنوب السوري مع التنف ومع الشمال الشرقي، ومن ثم مع الشمال الغربي، وإخضاع هذه المناطق كلها لهم بشكل أو بآخر. وأنّ مبتدأ هذه الخطة هو إغلاق الحدود السورية العراقية.
ومما جاء في المادة المشار إليها:

  • «الولايات المتحدة الأمريكية باتت أعجز من أن تغلق الحدود السورية العراقية، بل وأكثر من ذلك، فإنّ وجودها نفسه في سورية وفي العراق بات مهدداً، واحتمالات إنهائه تتصاعد كل يوم. هذا ما تثبته الوقائع، ليس على المستوى الدولي والإقليمي فحسب، بل وأيضاً على المستوى المحلي وعلى الأرض، وفي كلٍ من العراق وسورية على السواء...
  • ما يجري فعلياً هو أنّ سطوة الأمريكي سواء في الشمال الشرقي وفي الشرق، أو في المناطق الأخرى من سورية، تسير نحو التضاؤل. بالتوازي مع ذلك تظهر ملامح وبدايات موجة جديدة من الحراك الشعبي، وكي يتم تخوين هذا الحراك بقضه وقضيضه كما هي العادة، يجري العمل من جانب متشددين في النظام لاعتباره جزءاً من «المخطط الأمريكي المفترض»، فليست هنالك أية أسباب داخلية لكي تتحرك الناس، ليس هنالك قهر ولا نهب ولا إذلال ولا استهتار ولا رفع دعم ولا لبرلة... هنالك فقط «مخططات خارجية».
  • بالتوازي، يسعى متشددون في المعارضة، إلى دفع الحراك الوليد نحو أنفاق الأشكال والشعارات السابقة، ويحاولون أن يدسوا ضمنه أفكاراً وشعارات يقدمون من خلالها كعادتهم خدمة للمتشددين في النظام بمحاولة إثبات صحة مقولة «المخطط الخارجي».

ما الجديد؟

الجديد اليوم، هو أنّ الأكاذيب التي يروجها الأمريكان وأبواقهم قد انتقلت إلى مستوى أعلى، يشمل ذلك تصريحات من سيناتورات أمريكيين وبعض المسؤولين الأوروبيين، وكذلك تحليلات وتوقعات من «مراكز أبحاث» غربية، إضافة لإسهام بعض الشخصيات الإعلامية السورية، التي سبق أن لعبت أدواراً رديئة في التحريض الطائفي والتحريض على العنف طوال العقد الماضي. وهنالك أيضاً قلة قليلة ممن يحاولون ملاقاة هذه الإشارات كلها على الأرض، من بين صفوف المحتجين، وبالضد من إرادتهم.
ما ينبغي أن يكون واضحاً، هو أمران معاً، الأول: هو أنّ الأمريكي كاذب لا يُعتمد عليه إلا فاقد بصرٍ وبصيرة. والثاني: هو أنّه فوق كذبه عاجز لا يستطيع تنفيذ ما يعد به حتى ولو أراد أن يصدق.
أما عن كذب الأمريكي وخيانته لمن يعدهم بالدعم، فهي لا تكاد تنتهي؛ من فيتنام إلى أفغانستان إلى العراق إلى أرمينيا إلى السودان وإلى أوروبا نفسها. حيث في كل مثال من هذه الأمثلة كان مصير من يثق بالأمريكان هو التصفية سياسياً وحتى جسدياً في بعض الأحيان.
وأما عن عجزهم بما يخص سورية فهو مسألة تحتاج إلى توسع كبير في الكلام، ولكن نكتفي هنا بالإشارات التالية:

أولاً: إنّ حجم التوافقات بين كل من الصين وروسيا وتركيا وإيران من جهة، ومعهم السعودية ومصر من جهة ثانية، قد وصل حداً غير مسبوق في كل التاريخ المعروف لهذه الدول. هذا التوافق يتضمن الوجود ضمن بريكس، التحالف المضاد للأمريكان كإحدى علاماته، ويتضمن الاتفاقات ضمن منظمة أوبك+، وكذلك التسوية السعودية الإيرانية المستمرة بالتقدم والارتفاع رغم كل محاولات التشويش، وبالضد من إرادة «إسرائيل» وأمريكا على السواء. وهذه التوافقات تشمل سورية أيضاً، وتشمل انتقالها سياسياً نحو الاستقرار عبر تنفيذ القرار 2254 على كامل الأرض السورية، وتتناقض مع المسعى الأمريكي لتعميق تقسيم الأمر الواقع، واستدامة سلطات الأمر الواقع على حالها، وتأجيل التغيير، بحيث يستمر التحلل والتفتت الداخلي في سورية إلى أن تصل إلى مرحلة إعلان وفاتها ككيان سياسي جغرافي واحد، بل وكثقافة وكشعب.

ثانياً: إنّ حجم القوات الأمريكية في سورية، سواء في الشمال الشرقي أو في التنف، هو حجم رمزي غير قادر على القيام بأي أعمالٍ عسكرية فعلية، ولا على دعم أي أعمال عسكرية حقيقية. هو فقط كافٍ رمزياً، مع الضجة الإعلامية والسياسية لدفع السوريين نحو مقتلة جديدة فيما بينهم، إذا هم انزلقوا بهذا الاتجاه. وأوهام منطقة حظر جوي وما شابه لا علاقة لها بالواقع إطلاقاً؛ فهي لم تكن قابلة للتحقيق عام 2011، وهي مستحيلة التحقيق اليوم بعد 12 عاماً من التراجع المستمر للأمريكان من حينه وحتى اللحظة.

ثالثاً: إنّ الضغط المشترك الروسي الإيراني التركي على الوجود الأمريكي في سورية، ما يزال في تصاعد مستمر، بالأدوات السياسية وبغيرها، ابتداء من اجتماع طهران قبل عامٍ من الآن تقريباً. وفهم ما جرى في دير الزور مؤخراً، ينبغي أن يأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار، وإنْ لم تكن هي التفسير الكامل لما جرى، ولكنها بالتأكيد جزء من التفسير... وذلك على عكس ما تحاول أبواق أمريكا أن تروّجه من أنّ المسألة هي مسألة ترتيب الأمريكان لقوىً تابعة لهم. حقيقة الأمر معاكسة تماماً، على الأقل، إذا أردنا تصديق أنّ كلاً من العشائر العربية وقسد يعملون بوصفهم تابعين للأمريكان، فإنّ اشتباك تابعين يضعف كلاً منهما ويضعف المشغل... مع التأكيد، أنّ المسألة ليست كذلك تماماً، ولكن فقط من باب محاججة أصحاب نظرية أمريكا قادرة على فعل كل شيء.

ما الذي يمكن توقعه من الأمريكي؟

ما يستطيع الأمريكي فعله حقاً، هو المزيد من الضجة الإعلامية السياسية، وربما توريد الأموال... حتى مسألة قدرته على توريد أسلحة بات مشكوكاً بها ضمن الظروف الجديدة، ليس فقط لأنّه غير قادر على تأمين أي خطوط إمداد، بل وأهم من ذلك، لأنّ الناس لا تريد الحرب، ولا تريد العنف، وستقف ضده وضد من يدعو له بكل قواها.
ولذا، فإنّ ما يمكن توقعه هو أنّ الأمريكي يعوّل على اختراق الحركة من داخلها، عبر تنمية وتثقيل العناصر الأشد سوءاً ضمنها، وعزل وإبعاد العناصر الوطنية. هذا سيسمح بعزل الحركة وتحويلها من حدث له طابع شعبي إلى حدث له طابع محلي ضيق ومعزول، وعندها ستزداد فرص المغامرين الذي يسعون لامتطاء الشارع باتجاه مغامرات يمكنها أن تفتح باب العنف، ويمكنها بالمحصلة أن تقضي على مطلب الحل السياسي مطلب 2254 لتحل محله مطالب محلية. هذه الوصفة تنفع الأمريكان لأنها تعني المساهمة في إبعاد الحل السياسي الشامل، وإبعاد إعادة توحيد سورية، وتعني أيضاً المحافظة على حالة تقسيم الأمر الواقع، وحالة الاستنزاف والتهجير وتدمير البلاد المستمر على يد المتشددين والناهبين الكبار من كل الأطراف.
هذه حدود ما يمكن للأمريكي الدفع نحوه، وأما حظوظه في النجاح بذلك فتتعلق بعاملين، الأول: هو مدى وعي وجدية الوطنيين من كل الأطراف في سورية، المشتركين في الحركة الشعبية وغير المشتركين فيها، في دعم الحركة وتطويرها وعزل أعدائها وتصويب شعاراتها بحيث تصب في الهدف الأساسي الوطني الشامل: 2254. والثاني: هو مدى سرعة وجدية تحرك الدول المناقضة لأمريكا في الساحة السورية، وعلى رأسها دول أستانا في الدفع نحو الهدف نفسه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1140
آخر تعديل على الجمعة, 05 كانون2/يناير 2024 21:28