حُلمٌ أمريكي ضائع... وأخطاء بالجملة
سعد خطار سعد خطار

حُلمٌ أمريكي ضائع... وأخطاء بالجملة

بدءاً من رئاسة جورج بوش وصولاً إلى دونالد ترامب، ارتكبت الولايات المتحدة عدداً من الأخطاء الفادحة التي لم تقلل من نفوذها في المناطق الإستراتيجية حول العالم فحسب، بل حدّت من قدرتها على إبراز القوة والهيمنة المنفردة في وجه تلك القوى غير الراغبة في الركوع لواشنطن.

تساعد بعض الأمثلة المأخوذة من الماضي القريب في إظهار الكيفية التي أدت فيها سلسلة من الأخطاء الإستراتيجية إلى تسريع تراجع الهيمنة الأمريكية في العالم.

المعاهدات والقوة المتراجعة

يمكن التأريخ لبداية هذه التراجعات الأمريكية منذ القرار الأمريكي بغزو أفغانستان في أعقاب أحداث 11 أيلول 2001، حينما أعلنت عزمها على مواجهة «محور الشر» الذي ضمّت إليه كلاًّ من كوريا الشمالية وإيران. ومنذ ذلك الوقت، عملت الولايات المتحدة على إخفاء أهدافها المتوسطة وبعيدة الأجل، من خلال قيامها بالتركيز على «تهديدات» أكثر إلحاحاً وقصيرة الأجل. وكمثال على ذلك، فإن انسحاب واشنطن من معاهدة مضادات الصواريخ الباليستية «ABM»، وقيامها بنشر نظام «Aegis» القتالي البري والبحري كجزء من ترسانة حلف الناتو، جاء بذريعة «حماية الحلفاء الأوروبيين من التهديد الذي تشكِّله الصواريخ الباليستية الإيرانية»، وفي ذلك الوقت، لم تكن هذه الحجة تقنع أحداً من الدول، لأن طهران لم يكن لديها القدرة ولا النية لإطلاق مثل هذه الصواريخ.
وكما اتضح لاحقاً لكثيرين، فإن نشر هذه النظم الهجومية لم يكن سوى بهدف إبطال قدرة الاتحاد الروسي على الردع النووي. ورغم كل التباينات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الولايات المتحدة، إلا أنه من الملفت التزام الرئيسين باراك أوباما ودونالد ترامب بخطوات سلفهما جورج بوش في هذا السياق التزاماً تاماً، إذ تواصل في عهد الرئيسين نشر المنظومات الصاروخية على الحدود الروسية، بما في ذلك في رومانيا وبولندا.
وبعد قرار ترامب بالانسحاب من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى «INF»، من المرجح أيضاً أن تتخلى الولايات المتحدة عن معاهدة «ستارت2»، والحجة الأمريكية المتداولة في هذا السياق، هي العمل على إعادة تموضع واشنطن في هذه الاتفاقات. لكن هذه الخطوات ساهمت بشكلٍ كبير في دفع موسكو إلى تطوير أسلحة جديدة (مثل الأسلحة فرط الصوتية والليزرية والأسلحة المعتمدة على التكنولوجيا الفائقة)، ورغم رفض واشنطن الاعتراف بالتحولات الكبرى الناتجة عن هذه الاختراقات التكنولوجية، إلا أن التقييمات العسكرية الرصينة تعترف بأن اللعبة قد تغيرت والتوازنات كذلك.
وفي هذا الإطار، لا يوجد اليوم على سبيل المثال أسلحة دفاعية ضد منظومة أفانغارد الروسية التي استعادت القدرة الروسية على التدمير المؤكد المتبادل، هذه القدرة التي تضمن عدم استخدام الأسلحة النووية ضد روسيا وفق مبدأ «توازن الرعب». وبالتالي، باتت موسكو قادرة على ضمان السلام العالمي من خلال القوة والتفوق العسكري. وفوق ذلك، فإن هذا السلوك الأمريكي قد فتح الباب أمام موسكو لتشارك حليفها الإستراتيجي، الصين، بعض الابتكارات التكنولوجية العسكرية، مما فتح الباب أمام بكين للحصول على أسلحة فرط صوتية، إلى جانب أنظمة دفاع صاروخي متطورة، مثل S400 ولواحقه.

الاتفاق النووي... وإيران النووية

بالإضافة إلى الضغط الاقتصادي والعسكري المتواصل ضد إيران، كانت إحدى العواقب الناجمة عن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، أو ما يعرف بخطة العمل الشاملة، هي إجبار طهران على دراسة الخيارات كلها، فرغم أن قادة البلاد قد أكدوا دائماً على أنهم لا يرغبون بتطوير سلاحٍ نووي، إلا أن السلوك الأمريكي يدفع طهران شيئاً فشيئاً إلى الاقتداء بنموذج بيونغ يانغ، وتأمين الردع النووي لحماية نفسها من العدوان الأمريكي. أو حتى إلى الاستفادة من تجربة الكيان الصهيوني في هذا المجال، أي مجال «الغموض النووي»، بحيث لا يكون معروفاً فيما إن كانت طهران تملك أسلحة نووية أم لا، مما يسمح بهامش مناورة واسع على صعيد علاقاتها الدولية.
ومرة أخرى، ينتهي الأمر بواشنطن إلى إطلاق النار على نفسها من خلال تشجيع أحد خصومها الإستراتيجيين على أن يعمل بالطريقة التي تسمح له بتأمين نفسه في مقابل إمكاناتها العسكرية، إذ لم تنته إجراءات واشنطن إلّا إلى تركها في وضعٍ حرج مقارنة بمنافسيها الدوليين.
لم تجلب قرارات واشنطن الدبلوماسية والعسكرية في السنوات الأخيرة سوى عالمٍ أكثر عداءً للولايات المتحدة، وأقل ميلاً إلى قبول إملاءاتها. ورغم كون الولايات المتحدة القوة العسكرية الأولى في العالم، إلا أن تخبطها في استخدام هذه القوة أدى إلى قيام روسيا والصين بتجاوز واشنطن في بعض المجالات العسكرية الحرجة التي تفقد الولايات المتحدة معها هذا التفوق العسكري. وكلما أصبحت الولايات المتحدة أكثر عدوانية في التعاطي مع خصومها وحتى حلفائها، كلما كشفت عن حدود ضعفها التكتيكي والإستراتيجي، الأمر الذي لا يؤدي بدوره إلا إلى تسريع فقدانها للهيمنة وتراجعها على مستوى العالم.
إن حلم واشنطن بالحفاظ على السيادة العالمية المنفردة قد ضاع منذ أن فقدت قدرتها على توجيه ضربة نووية دون القلق من الضربة الانتقامية الثانية، وبهذا، فإن جهود الولايات المتحدة المضنية من أجل الحفاظ على مكانتها السابقة لم تعد يؤدي اليوم إلا إلى استنزاف الطاقات الأمريكية في غير مكانها، وإسقاط ورقة التوت عن جوانب الضعف الأمريكي. وعليه، فإن تصرفات جورج بوش، ومن ثم باراك أوباما ودونالد ترامب، لم تؤد إلا إلى تسريع عملية الانتقال من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب، بات يميل اليوم لا لضمان أن تتعادل موازين القوى بين واشنطن وخصومها، بل إلى ضمان التفوق لخصومها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
950
آخر تعديل على الإثنين, 27 كانون2/يناير 2020 13:32