طبلة «القرن»  جلبة عالية وجوف فارغ

طبلة «القرن» جلبة عالية وجوف فارغ

«يستحق الفلسطينيون تقرير المصير، ولكن تحررهم طموح عالٍ». صحيح أن هذا التصريح لكبير مستشاري الرئيس الأمريكي، جاريد كوشنر، أعاد إلى الأذهان منطق التصريحات الاستعمارية الإنكليزية والفرنسية الذي ساد النصف الأول من القرن العشرين، إلّا أن قاسماً مشتركاً بين المنطقين عصيَ فهمه على من بالغ في تقدير تبعات تصريح كوشنر حول ما يُعرف بـ«صفقة القرن»، وهو أن المنطقين كليهما صادران عن «مندوبين سامين» لإمبراطوريات تتهاوى.

أحدث الإعلان عن موعد انعقاد «ورشة عمل السلام من أجل الازدهار» أواخر الشهر الجاري في البحرين ضجيجاً إعلامياً عالياً وصل ببعض التحليلات للقول: إن المؤتمر- إن عقد- سيكون «بداية فلسطين الجديدة» الناتجة عما يسمى بـ«صفقة القرن»، في إشارة إلى «الاستثمارات المنتظرة» التي ستدفع فاتورتها بعض الدول العربية. لكن أي متابعٍ للمجريات سيستطيع- فيما لو حيّد نفسه عن التضخيم الإعلامي للمسألة- أن يشير بالبنان إلى العوامل التي تقود، للحسم بأن هذه «الصفقة» وهمٌ محض، وأنّ الضجيج الذي تثيره إنما هو ضجيج يدوي في أفقٍ مغلق.

أولاً: توازنات القوى وواقع «الممولين» المفترضين

لتمرير أي مشروع بحجم «الصفقة» التي يجري الحديث عنها، لا بدّ من الحكم على إمكانية تنفيذه بالنظر إلى موازين القوى الدولية القائمة، أي: البحث عن تلك القوى المادية القادرة على تحويله إلى أمرٍ واقع: إذا استثنينا الولايات المتحدة والكيان ذاته، يظهر العالم مجمعاً إلى حدٍ بعيد على رفض «الصفقة»، بدءاً من روسيا والصين اللتين أعلنتا رفضهما الواضح لها، وأكدتا عزمهما على «المساهمة من أجل تحقيق تسوية شاملة وعادلة وطويلة الأمد بطرق سياسية ودبلوماسية على أساس المرجعيات القانونية الدولية القائمة، بما في ذلك قرارات الأمم المتحدة ذات الشأن»، وصولاً إلى الاتحاد الأوروبي الذي رفضها وربط موقفه أيضاً بالقرارات الدولية، مروراً بالموقف الإيراني والتركي الواضح في رفضه. حتى أنّ تلك الدول العربية التي تربطها علاقة تبعية بالولايات المتحدة، والتي ستحضر «ورشة» البحرين كذلك، مضطرة للإفصاح عن هذا الرفض.

لم تنجح محاولات تصفية القضية الفلسطينية في ذروة الهيمنة الأمريكية على العالم حين كان من النادر أن نسمع من يقول «لا» في وجه واشنطن، فكيف لها أن تنجح في زمنٍ يجاهر حتى أقرب حلفائها بهذه الـ «لا»؟ إنّ تحويل القضية الفلسطينية إلى قضية استثمارات اقتصادية لا يصلح ليكون «صفقة القرن الماضي» فكيف سيجري ذلك بقرننا الحاضر وتوازناته الجديدة؟
وإذا كان التعويل الأمريكي الصهيوني على نجاح «الصفقة» يعتمد على الدور المسند للدول الخليجية في دفع فاتورة الاستثمارات المفترضة في فلسطين، فلنا أن نتساءل: هل نجحت الأموال الخليجية سابقاً في لعب دور حاسم لتغيير مسار الأحداث جذرياً في عدد من دول المنطقة؟ ثم لنفترض – افتراضاً لم يكن له يوماً أساس في الواقع- أن الفلسطينيين سيقبلون بهذه «الرشوة»، هل الواقع الحالي الداخلي الذي يحمل بذور الانفجار في أية لحظة في الدول الخليجية سيسمح بلعب دورٍ كهذا؟

ثانياً: واشنطن تقدّم كل شيء، لكن «الحقائق عنيدة»

تتراوح تقديرات الدعم الأمريكي الذي تلقاه الكيان الصهيوني منذ عام 1948 حتى عام 2017 بين 130 إلى 280 مليار دولار (حسب بيانات خدمة أبحاث الكونغرس الأمريكي). وفوق ذلك، قدّم ترامب اعترافاً بالقدس «عاصمة للكيان»، وألحقه بالاعتراف بـ «سيادة الكيان» على الجولان السوري المحتل، ورافقه إدراج واشنطن تنظيم «الإخوان المسلمين» على قائمة الإرهاب والذي كان المقصود منه ليس «الإخوان» بل حركة «حماس»، وصولاً إلى الإعلان عن «صفقة القرن» و«ورشة العمل» في البحرين.
المفارقة التي تدعو للتفاؤل هي: أنّ الكيان، ورغم كل ما سبق، يعيش اليوم أعمق أزمة وجودية وأكثر، لحظاته كمداً وكرباً منذ نشوئه. لماذا؟ يدرك هذا الكيان أن الدعم المالي الأمريكي الواسع في طريقه موضوعياً نحو الانخفاض في ظل أزمة انقسام داخلي أمريكي لها تداعيات كبرى على جميع حلفاء واشنطن، وما حثّ واشنطن تابعيها العرب لدفع فاتورة «الصفقة» إلا جزء من هذا المسار. أمّا الدعم في المواقف السياسية، فهنالك أصوات تخرج اليوم حتى من داخل الكيان لتؤكد على أن التنفيذ الفعلي لهذه المواقف، إنما هو مرتبط بواقع موازين القوى، لا برغبة واشنطن، وأنّ كل ما تقدّمه الأخيرة حالياً لا يعدو كونه ضغطاً حتى النفس الأخير في محاولة لتحصيل ما لا يمكن تحصيله لاحقاً في ظل تطورات موازين القوى، لكن هذه المحاولة ذاتها سينتج عنها خروج أمريكيٌ من لعب دور «الوسيط» بكل ما يحمله ذلك من مخاطر على الكيان الذي يمكن القول: إنه يعيش «مرحلة رعب»: مستقبلٌ موضوع على طاولة البحث من جهة، وأزمة حكم من جهة أخرى، بدأت مظاهرها تتجلى بتعثّر تشكيل الحكومة والدخول في حكومة تسيير أعمال حتى أيلول، وهي أزمة مرشحة لتكون عميقة للغاية في المرحلة المقبلة.

ثالثاً: العامل الحاسم، فلسطيني

بالرغم من أنه لم يتم الإعلان بعد عن بنود «الصفقة»، إن وجدت أصلاً، إلا أنها بمنطقها وطبيعتها، وبحسب التصريحات الأمريكية، مفصّلة على قياس الكيان ومصالحه، أي: إنها تنازلات كبرى على حساب الشعب الفلسطيني، وليس من باب العواطف الحماسية القول بأن لهذا الشعب سيكون الدور الحاسم في إفشال هذه «الصفقة» ومثيلاتها، فالحراك الشعبي الفلسطيني بأوجهه وأماكنه المتعددة قد فرض نفسه منذ زمن لاعباً أساسياً في المشهد. هذا الحراك بتطوره اللاحق، وانفتاحه على احتمال إنتاج قيادات سياسية فلسطينية ليست موجودة بشكلها الناجز اليوم، هو الضمان لتحقيق التقاط تاريخي للظروف الدولية التي كل ما فيها من وقائع تؤكد على أن أرضية متينة تُبنى اليوم بجهود القوى الصاعدة دولياً لانتزاع مكتسبات حقيقية لمصلحة الشعب الفلسطيني.
لننتظر ونرى، إن عُقدت «ورشة» البحرين أم لم تعقد بذريعة أزمة الانتخابات في الكيان أو غير ذلك، إن شهدت «الصفقة» تأجيلاً جديداً في إعلان بنودها أو لم تتأجل، فإن هذا لن يغيّر شيئاً: الظرف التاريخي الذي نعيشه اليوم والذي يشّرع باب الأمل بحلّ كل التعقيدات التي خلقتها فترة السيادة الغربية على العالم لن يقف عاجزاً عند حدود فلسطين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
917
آخر تعديل على الأربعاء, 12 حزيران/يونيو 2019 16:28