الشرق والغرب وآفة «المساطر القديمة»
سعد صائب سعد صائب

الشرق والغرب وآفة «المساطر القديمة»

تلعب الطريقة التي تفهم من خلالها القوى والأطراف السياسية المحلية طبيعة الصراع الدولي الجاري، دوراً حاسماً في سلوكها وتوجهاتها وتحالفاتها. وإذا كان ظاهر الأمور، أن القوى السورية اصطفت بين الشرق والغرب، فإنّ جوهرها مختلف أشد الاختلاف عما تبدو عليه...

لطالما قالت «قاسيون» بما تمثله، أنّ ثنائية (نظام- معارضة) هي ثنائية وهمية، قالت ذلك بشكل واضح منذ 2005، لأنّ الانقسام الحقيقي هو بين ناهبين موجودين في الطرفين، ومنهوبين هم الأغلبية الساحقة المحسوبة على الطرفين.
هذا التصنيف نفسه، ينسحب على العلاقة الحقيقية للأطراف السورية، لا الظاهرية، مع الشرق والغرب؛ إذ هنالك ضمن النظام من لا يزال غربي الهوى حتى الصميم، تحديداً الفاسدين الكبار و«جماعة الكومسيون»، وعلى الضفة الأخرى، ضفة المعارضة هنالك من يرى في الشرق حليفاً حقيقياً للشعب السوري وللدولة السورية ككل.

الفهم الخاطئ «صراع الشرق والغرب»

بالعودة لطريقة فهم القوى لطبيعة الصراع، فإنّ بين بعض من يرون في الغرب حليفاً، وكذلك بين بعض من يرون في الشرق حليفاً، فهمٌ قاصر مشترك لطبيعة الصراع؛ فهم يلخصون الصراع بالشكل التالي: هنالك محوران دوليان يتنازعان السيطرة على العالم، وسورية نقطة اشتباك عالٍ بينهما، ونتيجة هذه الصراع ستكون إما انتصار الغرب أو انتصار الشرق أو الوصول إلى حل وسط.
في حال انتصار الغرب، فإنّ حلفاء الغرب سيلتهمون سورية بأكملها، وفي حال انتصار الشرق، أنصار الشرق سيلتهمون سورية بأكملها، وفي حال الوصول إلى حل وسط، فإنّ كلاً منهما سيلتهم بقدر حصة حليفه من الحل الوسط... والنتيجة واحدة: سيتم التهام سورية لقمة واحدة أو لقيمات.
آفة هذا التحليل، أنه يستخدم مساطر عتيقة؛ مساطر لصراعات من الماضي، صراعات ذات طابع (دولتي- قومي)، أو ذات طابع دولتي أيضاً ولكن كتحالف بين مجموعة دول قومية في وجه مجموعة دول قومية أخرى... آخر مثال عن هذا النوع من الصراعات هو الحرب العالمية الأولى.

لا تنسوا أزمة الرأسمالية

الجديد في الصراع الذي نعيشه اليوم، أنه يأتي في ظل أزمة رأسمالية عميقة وشاملة تضرب بالضبط المركز الرأسمالي العالمي الأكثر تطوراً، وتهدده بنسف أساسه المركب (الدولار والتبادل اللامتكافئ)، وليس لها من مخرج إلا بتدمير واسع النطاق للقوى المنتجة على المستوى العالمي وجانبها البشري بالذات؛ فإذا كان خروج الرأسمالية من أزمة 1908-1910 قد كلف ما يصل إلى 15 مليون قتيلٍ في الحرب العالمية الأولى ومن أزمة 1929 ما يصل إلى 60 مليون قتيل في الثانية، فإنّ المهمة التي وضعها نادي روما للنخبة العالمية الحاكمة عام 1975 هي قتل 5 مليارات إنسان خلال 45 عاماً أي: حتى 2020 عبر وسائل متعددة على رأسها النيوليبرالية الاقتصادية والحروب البينية والداخلية إضافة إلى ربط المساعدات بسياسات تحديد النسل، وتجارة الأوبئة والأمراض السارية وغيرها من الأدوات الإجرامية.
إنّ تقسيم وإعادة تقسيم العالم بين الاحتكارات والدول الاحتكارية لم يعد موضوع الساعة بالنسبة للمركز الرأسمالي، رغم أنّ جشع الاحتكارات لا يمكنه التوقف عن إدمانه على محاولات توسيع مناطق النفوذ وتكسير نفوذ الاحتكارات الأخرى، إلا أنّ الاحتكار بأسره بات مهدداً اليوم؛ فبعد أن وصل الاحتكار إلى مستوى شديد التمركز، وارتبط بشكل كامل بالدولار على المستوى العالمي، بالتوازي مع تراجع النمو على المستوى العالمي وتراجع الاستهلاك بفعل تمركز الثروة في أيدي قلة متناقصة... وليس من عجب في هذا السياق أن ترامب بات يهجس بـ «الخطر الاشتراكي».

وهم الاصطفاف وراء الغرب

بالعودة إلى سورية، فإنّ تلك القوى التي تتكئ على الغرب ظناً منها أنّه وإنْ لم ينتصر في الصراع فإنه سيحصل على تعويض ما على الأقل يمكنها من تأمين موضع قدم لها في سورية المستقبل، تلك القوى والمساطر العتيقة التي تستخدمها، لا تسمح لها بفهم أن ما ترومه ليس سوى افتراض أخرق لا مكان له على أرض الواقع؛ ما تريده أمريكا اليوم وبالأمس وقبل 20 عاماً وأكثر في سورية، هو ألّا تكون هنالك سورية، ما تريده هو تفتيت إلى أقصى الحدود الممكنة. واشنطن لا ترى في سورية سوى أنها فتيل إنْ استطاعت إشعاله بالقدر الكافي فإنه سيفجر المنطقة بأسرها، وسيسمح تالياً بالضغط على عدوين كبيرين للولايات المتحدة، عدوين أقرت في إستراتيجية وزارة «دفاعها» (وهي أعجب وزارة دفاع في العالم، إذ تحتاج لأكثر من 800 قاعدة عسكرية حول العالم للدفاع عن بلدها)، بأن التنافس معهما أعلى أولوية من محاربة الإرهاب: العدوان هما: الصين وروسيا.
ومن عدالة التاريخ، أنّ أمريكا وحلفاءها في تراجع مستمر، وما عادوا قادرين على فعل ما يريدون في سورية وفي غيرها، ولذا فهم الآن يلعبون دور «الممانعة» فقط لا غير، وما يطرحونه من خطط ومشاريع (خاصة ما يطرحه المهرج جيمس جيفري الذي بلع لسانه في الأشهر الثلاثة الماضية وبقي متلطياً ليعود إلى تهريجه السمج خلال الأسبوع الفائت) ليس للتطبيق إطلاقاً بل مجرد إلهاء وعرقلة علّ ذلك يكبح تقدم وانتصار أعدائها في سورية وفي المنطقة.

«المنبطحون» واضحون وهزيلون

القسم من القوى السورية المنبطح للأميركان معروف وواضح وهزيل، لكن قسماً آخر يبقى متلطياً في عباءة حلفاء الشرق، ويرسل غزله السري وإيماءات هواه بين حين وآخر. هذا القسم هو الآخر يستخدم مساطر عتيقة، وإن كانت مساطر أكثر احترافاً لأنها تعود إلى النصف الثاني من القرن العشرين وليس إلى الحرب العالمية الأولى...
نوع المساطر التي يستخدمها قسم الغزل السري، هو المستند إلى مرحلة الحرب الباردة و«دول عدم الانحياز»، التي استمتعت بعض نخبها بلعبة الحبلين بين المعسكرين عبر عقود، فتراها ترفع شعارات اليسار وتطبق سياسات اليمين، حتى وصلت إلى درجات عالية من احترافية القفز، وباتت مواهبها في هذا المجال معيقاً ذهنياً أمام تطورها اللاحق، إذ باتت قناعتها بقدراتها العجيبة على الاستمرار في اللعبة إلى ما لا نهاية هي بالضبط آفتها الكبرى.
إنّ تخلف فئة المغازلين المعرفي، مع أصحابها من المنبطحين، لا يسمح لهما بفهم جوهر التوازن الدولي الجديد؛ ليس بمقدور روسيا ولا الصين أن تكونا أمريكا جديدة، حتى لو كانت لديهما تلك النية. أكثر من ذلك، فإنّ الطريق الوحيد أمام هاتين الدولتين وكل حلفهما، في سياق دفاعهما عن وجودهما، قبل الحديث عن (نوايا إمبريالية مفترضة)، هو إبدال نظام العلاقات الدولية غير المتكافئة بآخر يقوم على التكافؤ، لا سبيل آخر لأن خلق مركز إمبريالي جديد لم يعد ضمن فئة الإمكانات الواقعية... دون إعادة توزيع ثروة على المستوى العالمي، لا إمكانية ليس للربح فحسب، بل لا إمكانية للنمو، لا إمكانية للإنتاج من الأساس، ولا إمكانية للاستمرار.
فهم عمق الأزمة الرأسمالية العالمية في طورها الراهن، هو المسطرة المعرفية الوحيدة التي يمكن لها أن تقدم معرفة يُعتد بها وتسمح لمن يستخدمها في تحديد موقعه وإمكاناته وضروراته، وما ينبغي عليه أن يفعله... ووفقاً للمسطرة إياها: سورية لن يجري اقتسامها بين غرب وشرق، ولن تخضع لغرب، ولا لشرق، ولن يكون فيها مكان مهم للاعبي حبال بين شرق وغرب... سورية القادمة ستكون للشعب السوري، وسيسودها الشعب السوري.

معلومات إضافية

العدد رقم:
904
آخر تعديل على الإثنين, 11 آذار/مارس 2019 13:13