آخر أيام «الكومسيون»

آخر أيام «الكومسيون»

يمكن وصف المرحلة منذ أواسط الثمانينيات وحتى عشية انفجار الأزمة السورية، بأنها مرحلة الصعود السريع والهيمنة لفئة «الكومسيونجية»؛ وبتعبير آخر: البرجوازية البيروقراطية التي اندمجت مع البرجوازية الطفيلية بعد تحالف وصراع على الحصص امتد منذ أواسط السبعينيات، لينتهي بتحولهما إلى شريحة برجوازية جديدة ميزتها الأساسية هي امتلاكها رأس مال مالي ناتج عن تراكم النهب والفساد البيروقراطي.


انطلق رأس المال هذا ليلعب دوره ضمن السوق المحلية عبر واجهات مختلفة (ما سمي في حينه بظاهرة القطط السمان)، وليبدأ بمحاولة نسج العلاقات الدولية بديلاً عن البرجوازيتين التقليدية والطفيلية التقليدية.
وصفة هذا «التطور» الذي جرى في سورية خلال ثلاثة عقود مضت، هي الوصفة المثالية للنموذج الرأسمالي التابع، يضاف إليها خصوصية سورية الجيوسياسية الفريدة وفائقة الأهمية، والتي تعززت بحكم ميزان القوى الدولي وتغيراته السريعة خلال هذه العقود؛ إذ أنّ بنية القاعدة الجماهيرية للنظام السياسي في سورية كانت لوقت غير قصير تتألف من الفلاحين الصغار والمتوسطين وجماهير الكسبة الصغار بشكل عام، والمستفيدين من مكتسبات الستينيات والسبعينيات، وكذلك الأمر نسبياً مع العمال.
هذا الوجه من أوجه الحالة السورية كان مفيداً إلى حد بعيد في المناورة ضمن التوازن الدولي بين الشرق والغرب حين وجود الاتحاد السوفياتي. وبعد الانهيار، انفلتت الأمور من عقالها ببطء بادئ الأمر، ثم بتسارع كبير منذ 2005؛ حيث (تكيّف) الكومسيونجية الجدد الذين باتوا متنفذين إلى درجة كبيرة داخل جهاز الدولة، مع ما ظنوا أنه توازن القوى الدولي الجديد الذي ينتصر فيه الغرب، وبعد عقد ونيف تيقنوا أن الأمر ليس كذلك (مع الصعود الشرقي البيّن) فعادوا لمحاولة لعب دور وسط بين الضفتين مع ميلهم المصلحي- الغريزي باتجاه الغرب.
الجديد في المسألة، أنّ هذه المحاولة لم تعد لديها مقومات النجاح؛ فما يجري في عصرنا هذا ليس توازناً صفرياً على غرار الحرب الباردة يمكن اللعب عليه، بل هو انتصار لنموذج جديد في العلاقات الدولية أساسه انتهاء التبادل اللامتكافئ الذي يشكل الكومسيونجية امتداده ضمن الدول المنهوبة وإحدى أدواته الأساسية، مما يعني انتهاء الهامش الموضوعي الذي كان يعمل ضمنه الكومسيون.
من جانب آخر، فإنّ قوانين التطور الداخلي في سورية لم تعد تسمح باستمرار هذه الظاهرة وهذه الفئة الطبقية التي استنفدت أية إمكانات، أو قدرات على حلّ أية مشكلة من مشكلات البلاد، ولا أدل على ذلك من توقف النمو الحقيقي بشكل نهائي مما قبل الأزمة، وتفاقم الفقر والبطالة والتهتك الخدمي الذي باتت البلد معه مكاناً غير صالح لحياة كريمة بحدودها الدنيا بالنسبة للقسم الأعظم من السوريين.
كانت قاسيون قد حذرت في افتتاحية عددها 546، الصادر في آذار 2012 من «احتمال ثورة مضادة تحت سقف الحوار» يتحالف ضمنها فاسدو الطرفين برعاية غربية لإعادة إنتاج التبعية مع بعض التغييرات الشكلية.
نستطيع القول الآن: إنّ هذا الاحتمال بات من الماضي، ولعل من الجيد أنّ التحالف قد جرى فعلاً بمعنى المواقف الملموسة، لأن ما سيتبع ذلك هو الهزيمة النهائية لهذا التحالف، والتي ستدفع بدورها نحو بناء نموذج جديد للدولة الوطنية المستقلة حقاً وفعلاً، سياسياً واقتصادياً... نعيش الآن ربع الساعة التاريخية الأخير قبل البدء بذلك.