هل من طريق إلى وحدة الشيوعيين السوريين؟!

منذ أن حدث أول انشقاق كبير في الحزب الشيوعي السوري بداية السبعينات وحتى تاريخ اليوم يتكلم الشيوعيون السوريون حول الوحدة، سواء على مستوى القواعد أو القيادات. فكل برامج الطوائف الشيوعية تضم فقرة حول ضرورة وحدة الشيوعيين، كما أن القواعد المتواجدة لدى كل الأطراف والأعداد الضخمة من الشيوعيين المشتتين والمتقاعدين يحلمون بذلك.

لا شك أن أي وطني، ناهيك عن أي شيوعي يرحب بالخطوة التي جرت في دمشق (راجع تقرير «مؤتمر في دمشق يسعى إلى توحيد الشيوعيين» - أخبار الشرق 20/10/2002) لا سيما أن هذه الخطوة تأتي في الوقت الذي تتعرض فيه المنطقة برمتها إلى تهديد التغيير من الخارج. واستناداً إلى هذه الحقيقة التي يعترف بها الجميع - فالوطنية الحقيقية هي تجميع القوى على أسس فاعلة - فإن تجميع القوى وبالتالي التقارب في الرأي والممارسة وتوحيد الإرادات بحيث يمكن لكل القوى الخيرة المساهمة الفاعلة في الأحداث القادمة (وليس الانفعال بها فقط)؛ هو الذي يخدم الوطن والشعب والقيم الحضارية والإنسانية العامة. وكل كلام آخر هو ثرثرة فوق النيل.

لقد خلقت التمزقات والجماعاتية نوعاً من الغربة وفقدان الهوية لدى الغالبية العظمى من الشيوعيين بل لدى اليسار عامة، وأصبحوا لا حول ولا قوة لهم أمام حالتهم الراهنة.

إن مقتل أي حزب سياسي هو في ابتعاد الجماهير عنه، لأن مبرر وجود أي حزب سياسي هو الناس بالدرجة الأولى. وهذا الأمر يعرفه الشيوعيون وغير الشيوعيين.

هذه المبادرة التي تمت، تخلق حنيناً كبيراً لدى أي شيوعي ملتزم بقيم الفكر الاشتراكي، غير أن إنجازها الكلي يرتبط ببعض المسائل الملحة، والتي إن لم تتوفر خلال مسيرة التوحيد، فستكون نتيجة هذا التجمع عبارة عن طفرة مشاعر حارة سرعان ما تخمد وتزول. باعتقادي أن أهم المسائل الملحة هي التالية:

1 - وحدة الشيوعيين تحتاج إلى إطار فكري: كانت وما تزال كل الأطراف المتنازعة تدعي الالتزام بالماركسية اللينينية، غير أن هذا الالتزام لم يخلق إطاراً فكرياً توحيدياً للشيوعيين السوريين. ودون الدخول في التفاصيل أعتقد أن مسيرة وحدة الشيوعيين السوريين تحتاج إلى إطار فكري جديد. بالطبع لا يمكن صياغة هذا الإطار على شكل تعاريف ومصطلحات، بل ما أقصده إطار فكري يستطيع احتواء التناقضات الواقعية التي تبرز خلال المسار ويجعل هذه التناقض دافعاً لتطوير الفكر وليس إلى التمزق والقطيعة.

عندما أقول «إطار فكري جديد» لا أعني أن الماركسية اللينينية قد شاخت، ولا أن الفكر الاشتراكي العلمي تقادم. وإنما أرى ثمة مسألة جوهرية على صعيد الفكر الماركسي، وهي أن الاشتراكية والديمقراطية صنوان لا ينفصمان. بمعنى آخر فالاشتراكية يجب أن تتعزز بالديمقراطية، كما أن الديمقراطية يجب أن تتوسع وتتعمق بالاشتراكية. يجب التخلص من الإرث السلبي لمصطلح الاشتراكية الديمقراطية نتيجة سلوك وممارسات الأحزاب الأوروبية المسماة بهذا الاسم.

إن الثورة الاشتراكية بنموذجها الكلاسيكي أصبحت حالة استثناء وليست القاعدة، على أقل تقدير في عصرنا الراهن. فالقاعدة أصبحت الاشتراكية التي تأتي من خلال الديمقراطية وتتطور بها. وهناك بعض القضايا الأخرى يجب أن تصبح قضايا رئيسية في الفكر الاشتراكي منها حقوق الإنسان وقضايا البيئة ومسألة العلمانية. فلا يمكن أن تكون الاشتراكية مقبولة إذا كانت ستدوس على الحقوق الأساسية للإنسان، ناهيك عن حقوق الأقليات والشعوب.

لقد قال ماركس: إن الإنسان هو أكبر رأسمال، ولهذا يجب أن تعزز الاشتراكية كل القيم الإنسانية في الإنسان، لأن الاشتراكية من حيث الجوهر هي إعادة الإنسانية إلى الإنسان. بما أن مسار الاشتراكية أصبح مساراً طويلاً وليس برنامجاً زمنياً محدداً، فلا بد من إبراز الطابع العلماني للاشتراكية دون مواربة. وبالمناسبة فالعلمانية ليست إزالة للديانات ودعوة إلى الإلحاد، بل هي التي تجعل الدين يبقى في جوهره الروحي والإنساني، ولا يتحول بيد الساسة إلى سلطة استبدادية كما حدث في التاريخ.

2 - التعامل مع السلطة: لا أريد الدخول في التفاصيل هنا، ولكن أرى أن كثيراً ما وقع الشيوعيون في تناقض مع ذاتهم من خلال العلاقة مع السلطة. لقد حاول الشيوعيون في بلدان مختلفة في العالم الثالث دفع السلطات الحاكمة من خلال تحالفات استراتيجية معها، أو دعمهما وتأييدها تأييداً استراتيجياً من أجل السير نحو الاشتراكية. لكن النتائج كانت مؤلمة على الطرفين وتزحزح الشيوعيون بعيداً عن مبررات وجودهم كحزب سياسي. أعتقد أن من غير الصحيح عقد تحالفات استراتيجية مع السلطات الحاكمة، بل ممكن أن تكون هناك تحالفات تكتيكية حول انتخابات البرلمان، تشكيل وزارة، مجالس البلديات .. إلخ، وتتغير هذه التحالفات مع تطور الظروف والتغيرات التي تحدث في علاقة كل حزب مع الجماهير.

أحب أن أنوه هنا إلى أن ما يقال بأن التحالفات الاستراتيجية ضرورية من أجل القضايا الوطنية العليا، هو شعار لم يجسد ذاته. لقد بينت التطورات التي جرت في مرحلة الحكومات الوطنية (أقصد بعد الاستقلال) أنه عندما يكون هناك نداء وطني عام، فكل الأحزاب الوطنية تتكاتف وتتلاحم، والبراهين على ذلك كثيرة في تاريخ سورية مثلاً. أما إذا كان هناك حزب غير وطني أصلاً فلا أعتقد أن طرفاً ما يستطيع أن يجعله وطنياً بالتحالفات. بكلمة أخرى فالتحالفات بالنسبة للشيوعيين يجب أن تكون لموضوع محدد ولزمن محدد، ومن ثم يجري إعادة النظر من أجل الاستمرارية أو فك الارتباط المقدس.

3 - لا يوجد في الفكر الماركسي واللينيني ما هو مقدس. فالاشتراكية فكر بشري وهذا يعني ليس فكراً مطلقاً، فعندما تخلق هنا مقدساً، يصبح الإنسان مصاغاً على ضوئه، وبالتالي يصبح الإنسان مقدساً، ويتكرر عندئذ التاريخ تراجيدياً أو كوميدياً. بشكل عام خلق المتسلطون في السلطة الاشتراكية وفي الأحزاب الشيوعية المقدس نتيجة الفكر الأحادي ولتعزيز السلطة الفردية. ولهذا يجب النظر إلى الماضي ودراسته خارج الإرث المقدس الذي تكوّن مع الزمن في كل حزب شيوعي، ويستدعي هذا بالضرورة أن لا يكون المسار المستقبلي محدداً تحديداً بعيداً مسبقاً. فالاشتراكية عمل يومي وتجربة وممارسة وإعادة تقييم ومتابعة.

أعتقد أن التحامل على الماضي لا يشكل خطراً كبيراً، بقدر ما يشكل الخط الأحمر الذي نضعه لعقلنا وتفكيرنا. فالتحامل ينهار أمام الوقائع بسرعة. أما الخط الأحمر والمقدس فإنهما يتحولان إلى سلطة عقلية مطلقة تنتج نسختها.

4 - النظام الداخلي: لم تطبق الأنظمة الداخلية للأحزاب الشيوعية إلا نادراً. وأستطيع القول إن شكلانية تطبيق النظام الداخلي في الحزب الشيوعي السوري كانت من أجل القوى الخارجية وليس من أجل الشيوعيين السوريين أنفسهم. كانت هذه الشكلانية ضرورية من أجل الكتابة في البيان الختامي للمؤتمرات «سيادة الديمقراطية الواسعة».

فمنذ المؤتمر الثالث للحزب الشيوعي السوري، كان الشيوعيون يذهبون إلى المؤتمرات من خلال اتفاقات مسبقة، إما اتفاقات جنتلمان، وإما من وراء الكواليس، وإما من خلال التآمر على بعضهم بعضاً بالتكتلات المسبقة. إن نظاماً داخلياً لا يطبق فعلياً يعني أنه لا يتلاءم مع الواقع، أو أن الأغلبية لا يقبلونه. لقد تحول النظام الداخلي في الحزب الشيوعي السوري أحياناً إلى شكل من أشكال ممارسة الاستبداد على الأعضاء. ولهذا أعتقد أن إعادة النظر في النظام الداخلي برمته هي مسألة ملحة، ولا بد منها، فليس من المعقول أن يأتي مواطن طواعية إلى الحزب، ومن ثم يتحول فيه إلى جندي في قطعة عسكرية. يجب إعادة النظر في المقولة اللينينية التي تقول إن الحزب في الحالات العادية شبه عسكري وفي الحالات غير العادية عسكري كامل. ربما تكون هذه الفكرة صحيحة أثناء عمل المقاومة الوطنية ضد العدو الخارجي، أو عند الثورة.

5 - القيادات: لا شك أن الطامة الكبرى تجلّت هنا. فقد لعبت النزعة الذاتية القيادية دوراً مهماً في انشقاقات وتشظي الحزب الشيوعي السوري. فعندما تبرز هذه النزعة عند القائد فإنه لا يعرف المحرمات بل يسعى للاستفادة من أي إمكانيات داخلية أو خارجية من أجل تعزيز مكانته القيادية. المسألة ليست مرضاً نفسياً، بمعنى النفس أمّارة بالسوء، بل لها علاقة بالنظام الداخلي الذي سبق القول عنه، وبتاريخ الحركة الشيوعية في القرن العشرين، وبخصوصية العالم الثالث المتخلف اجتماعياً وتاريخياً.

لا شك أنه في المراحل الكفاحية السرية والمقاومة الميدانية ضد الأعداء تقل الظروف التي تساعد على تفشي هذا المرض. غير أنه خارج هذه الظروف تتحول المواقع الحزبية لدى البعض إلى مكاسب شخصية. وإذا كانت هذه المواقع تجلب شيئاً من المنفعة المادية والغرور الذاتي فإن التشبث بها يصل إلى الحدود التي وصلت إليها في الحزب الشيوعي السوري.

ليست لديّ منظومة متكاملة من الاقتراحات لقطع الطريق على هذه الظاهرة التي أفسدت الحزب. غير أن جوهر المسألة يكمن في أن الفرد مهما كان موقعه الحزبي يجب أن يبقى فرداً، والحزب مؤسسة، وبذلك يصبح هو عبارة عن عنصر فاعل في هذه المؤسسة وليس مالكها أو صاحبها أو ذا الأسهم الأكبر فيها. فالمؤسسة يجب أن تحدد دور الفرد وحدوده، وليس العكس: أن يحدد الفرد القائد حدود المؤسسة وطبيعتها ودورها.

أخيراً، كل ما قلته أعلاه لا يدخل في باب الوصايا، بل مجرد مقترحات لفتح النقاش الفاعل على معظم هذه القضايا، في سبيل السير إلى صياغة حزب شيوعي أو تقدمي أو يساري (لا فرق عندي) يجذب الناس إليه من ناحية، ويجد الناس فيه حياتهم ومستقبلهم من ناحية أخرى.    

 

■ حلب ـ صالح بوزان