حول الشراكة السورية – الأوربية ماذا بعد «التريث»؟

لم تمض سوى بضعة أيام على كتابة، وأقل منها على صدور، افتتاحية «قاسيون»، العدد الماضي (424)، تاريخ 17 تشرين الأول 2009، المعنونة «أي انفتاح نريد؟»، حتى جاء على نحو شبه خجول في بعض وكالات الأنباء والمواقع الالكترونية والصحف نبأ مفاده بالمحصلة أن وزارة الخارجية السورية بعثت برسالة إلى الرئاسة السويدية للاتحاد الأوربي أن سورية أرجأت فيها التوقيع على اتفاق الشراكة السورية الأوربية من دون أن يعني ذلك أنها تعيد النظر بالاتفاق من حيث المبدأ، في حين قال رئيس هيئة تخطيط الدولة في تصريح ورد في تقرير لقناة الجزيرة حول الموضوع ذاته «إننا غير مستعجلين»..!

وبينما ذهبت بعض التسريبات إلى أن دمشق لم يرق لها «التكبر» الأوربي لجهة طريقة الدعوة والوقت المتاح للتوقيع، وأنها تحتاج إلى وقت لدراسة «تفاصيل الاتفاق»، ذهبت تفسيرات أخرى إلى ما مفاده أن «أوربا» مارست ضغطاً سياسياً على دمشق بخصوص «حقوق الإنسان» ما عطل التوقيع في موعده الذي كان مزمعاً في 26 الجاري، في حين ربط البعض ذلك بالانفتاح السوري – التركي وتأسيس مجلس الشراكة الإستراتيجية بين الطرفين، في رسالة موجهة في أحد جوانبها إلى «الأوربي المتكبر عليهما» وهو ما يتوجب وضعه في سياق إعادة الاعتبار «للشرق العظيم» وقوته واستعادة حضوره على الساحة الدولية في لحظة تاريخية مناسبة.

لكن إذا كان من الواضح أن خلف الأكمة ما خلفها، فإن أبرز ما في القضية هو ضبابية الموضوع قيد النقاش، أي اتفاق الشراكة، حتى بالنسبة لغير الاقتصاديين في الحكومة السورية، ومعهم الجمهور السوري كله، حيث سبق لوزير الخارجية، الأستاذ وليد المعلم، أن أوضح لنظيره الاسباني الزائر لدمشق في 14 الجاري أن الطلب السويدي لتوقيع الاتفاقية سيخضع للدراسة، مضيفاً بلهجة ساخرة انه يتمنى على موراتينوس «أن يشرح له معناها».

ومن هنا، فإنه بمقدار أهمية الإعلان السوري عن التريث والتمهل، ثأراً للكرامة، ومن أجل دراسة واستشفاف انعكاس الشراكة على القطاعات الاقتصادية السورية، في خطوة تشكل ضربة للمهرولين الليبراليين في سورية، ترتدي الأهمية ذاتها مسألة إطلاع الناس عموماً ووسائل الإعلام السورية خصوصاً على مضمون هذه الاتفاقية وبنودها وشروطها بالكامل، كي لا تبقى خاضعة للأقاويل والإشاعات، مع ترك مجموعة قليلة من مفاوضي الفريق الاقتصادي السوري متحكمة بتقديم مجتزآتها وتأويلاتها لما يقال إنه وثيقة من آلاف الصفحات، تنعكس في سلبياتها وإيجابياتها المفترضة على عموم البلاد والعباد في سورية.

ولكي تكون الشراكات بين أنداد وليس من أتباع، فإنه من الضرورة بمكان ألا يكون إعلان التريث السوري إجراءً «تكتيكياً» عابراً، وإنما «ضرب فرامل» ولو فيما قبل اللحظة الأخيرة لتكريس دراسة ما أسميناه «الميزات المطلقة» للموارد السورية والاستفادة منها، أي تلك التي تتمتع بها سورية دون سواها من البلدان، مع الأخذ بعين الاعتبار أنها بلد ذات اقتصاد زراعي بالدرجة الأولى، وصناعي متواضع، وتجاري إلى حد كبير، مع تشوهات طفيلية مستشرية من الأنشطة الاستثمارية والخدمية غير منتجة بغالبيتها، من منظور مفاهيم الاقتصاد الوطني، ناهيك عن الفساد الذي «يشفط الأخضر واليابس».

وبالتالي فإن التريث، بالمعنى الاستراتيجي، يعني تحقيق أفضل الشروط لاقتصاد يصنف بأنه نامٍ، وأفضل الشروط هنا تعني التركيز بالدرجة الأولى على القطاعات الإنتاجية، الزراعية والصناعية، وتحسين أوضاع أهم الموارد السورية، أي العامل البشري وظروف معيشته، لتأمين شروط «حمائية» للمنتَج والمُنتِج السوري على حد سواء أمام أفق تنافسي سيزداد حدة في ظل الأزمة التي تضرب المراكز الرأسمالية، بما فيها أوربا.

ولأن العنصر البشري هو أهم «رقم» في مقاييس التنمية ونجاحاتها، فإن سورية ومواطنيها وجمهور العاطلين عن العمل فيها، يعانون حتى قبل الشراكة من «العمالة الأجنبية» الوافدة بكثرة ومن بلدان آسيوية يزداد عددها تباعاً، وليس غريباً في ظل الأزمة العالمية وتقشفات الميزانيات الحكومية في بلدان أوربا وأمريكا أن ترى في المستقبل القريب، عمالة أوربية وربما أمريكية في بعض المدن أو الأرياف السورية الكبرى، تبدأ ملامحها فعلاً من خلال اعتراف وتسريب بعض المصنفين كـ«خبراء أجانب» من الزوار والمقيمين بأنهم يبحثون عن مصادر مالية لدعم عيشهم، أي أن الموضوع لم يعد بالنسبة إليهم «منة أو ترفاً»..!

وإذا كان ما سبق هو استقراء لبعض الفرص والتحديات فإن من بين الأسئلة التي تطرح نفسها: هل سيقف «المتلهفون» للشراكة المنتفعون منها في الداخل والخارج، في موقف المتفرج؟

ليس ذلك متوقعاً، وإنما سيمارسون مزيداً من الضغوط ومحاولات الابتزاز التي ينبغي وقفها، مرة وللأبد، التفاتاً لقضايا عموم الناس وتعبيراً عن مصالحهم الحقيقية، وعموم الناس هنا ليسوا مفهوماً ضبابياً أو قلة قليلة أو شرائح اجتماعية بسيطة، بل هم من لحم ودم، نساءً ورجالاً، من العمال والموظفين والفلاحين والعمال الزراعيين والعسكريين والدبلوماسيين والحرفيين والصناعيين وصغار التجار والعاطلين عن العمل والمشردين والفقراء، ونترك «لعتاولة» الفريق الاقتصادي تحديد نسبتهم من عموم الشعب السوري، وتقديم الرقم..!!