البير و «غطاه» ... جواب إلى عزيز من كمال خلف الطويل  إلى ميشيل كيلو

الأخ الأستاذ ميشيل كيلو

فضلت أن أرد على رسالتك الموجهة إلى أعضاء المؤتمر القومي العربي المقيمين في الولايات المتحدة بمفردي لسببين: الأول تقني وهو أن الرسالة التي وجهوها لأقرانهم الأعضاء السوريين لم تشملك لكونك لست عضوا فيه منذ عام 1998، والثاني جوهري وهو أنني أعرفك عن قرب وعن كثب لرحلة دامت خمس سنوات، اقتربت فيها من منهجك في التفكير والتحليل ملاحظا واسع معرفتك.. وذرابة لسانك.. وقوة محاججتك.

والثابت أنني تلمست بيقين متعاظم في العامين الأخيرين كيف أوصلتك قراءة خطلة للمشهد الجيو استراتيجي في الإقليم والعالم إلى منظومة تحليلية بعدت بك -في ظني- عن سكة السلامة. ولعل محطات بعينها أوصلتني إلى هذه القناعة ولم أوفر فرصة للحوار معك حولها وبصدق الصديق... أذكر منها لقاءاتكم المتكررة في قبرص ومالطا وتركيا وهولندا وفرنسا مع "مجموعات بحثية" أمريكية وأوروبية تحت عنوان "حوار مفتوح حول قضايا المنطقة". صحيح أن الحوار بحد ذاته لا بأس عليه لكنني أنا وأنت خير العارفين بما يتلطى وراء ذلك من محاولة جادة ومصممة على التدجين والاختراق والقولبة وإعادة الإنتاج (التعبير الذي تستظرفه كثيرا)... ومثال ما جرى للنخب اليسارية المصرية والفلسطينية في العقدين الفائتين ينبئ بما أقصد.

والطريف أنني علمت أن أحد الذين كانوا في واحدة من هذه الجولات "البحثية" صرح بأنكم كمجموعة استطعتم إقناع بعض جهابذة الدبلوماسية الأمريكية السابقين بعدالة القضية الفلسطينية. تحيرت حينها .. هل أبكي أم أضحك، فاكتفيت بالابتئاس الصامت.

أذكر أيضا لقاء ضمنا في مقهى الروضة المحبب في تموز 2004 بعد عودتكم من حوار لاهاي وكنتم تشرحون فيه بإيمان منقطع النظير مشروعكم الذي طرحتموه والذي ينص على إنشاء قوات طوارئ دولية تحت إمرة مجلس الأمن لإنفاذ حقوق الإنسان على اتساع العالم ولردع و/ أو عقاب أي دولة مخالفة لها. فمثلا كان يمكن لهذه القوات أن تهبط في مطار دمشق لفك أسر أحدهم سويعات بعد اعتقاله فيه وتنزل مظلييها في عدرا لتحرير آخر من معتقله السياحي و و و. قلت لك حينها أنك بذلك تشرعن إلغاء السيادات الدولتية وفرض الوصاية الدولية-أي الأطلسية-على كل دول العالم فأجبتني -وبحضور شاهد-: لكن ذلك سينطبق على إسرائيل أيضا فانعقد لساني دهشة وحيرة من سماع هذه الحجة التي أيقن أنك أول من يوقن بضلالها وأنت العليم بوسائط النفاذ إلى أعماق أمهات المسائل.

أصل من هذه النماذج إلى القول إن منهج التحليل الذي اهتديتم به منذ ربيع 2003 يحمل في ثناياه مخاطر الانزلاق إلى نهايات أربأ بكم أن تبغوا الوصول إليها. والمفارقة -غير الطريفة- هي أن ردك على مجموعتنا يفترق بـ 180 درجة عن نص إعلان دمشق وأنت أحد عرابيه الأساسيين. في ردك وفي بعض جملك في "حوار مفتوح" على قناة الجزيرة قلت كلاما تشتهيه الأسماع من رغبة في تصليب البنيان الوطني وترسيخ دعائم الصمود والحفاظ على دور سورية القومي فدارت رؤوسنا طربا لهنيهة قبل أن نعود ونراجع ما خططتموه في الإعلان من أن سورية جزء من منظومة عربية وليس من أمة عربية، وأن سورية ذات نسيج موزاييكي مغفلين أن 88 بالمائة من مواطنيها عرب الهوية واللسان والانتماء وأن "الأوراق الإقليمية" (على كراهيتي لهذا التعبير) حمل يجب التخفف منه لخطورته على سورية، أي إذا أعربنا هذا المنطق فهو "سورية أولا" كما الأردن ومصر والعراق ولا أدري من.

أنت يا أستاذ ميشيل خير من يعرف وفير انتقادي لسيرة أحزاب البعث السوري التي شاركت في الحكم أو حكمت منذ شباط 1958 -وليس آذار 1963- وبالتالي فلا يستطيع أحد ممن في معارضتكم أن يزايد في هذه المسألة. لكن المسألة الآن تتشابه في -وجه من وجوهها- مع ما واجه الروسي الذي كان يرزح تحت نير استبداد ستالين صيف 1941. ويقيني أنك خير من يعرف أن ستالين وأمته توحدا في خوض الحرب الوطنية العظمى ضد الغازي النازي: الوطنية وليس الشيوعية ولا - في ظرفنا- البعثية (هذا مع قسوة القياس لا شك).

أنت تقول: لقد أوصلنا النظام إلى هنا وبالتالي فهو المسؤول. وأنا أقول: إن النظام الذي حكم ولا زال لثلث قرن مسؤول عن بلاوي زرقاء أولها الفساد والإفساد ووسطها حفر الباطن ودخول لبنان وآخرها القمع الباطش. لكن شرائح أخرى في النخبة السورية تشارك النظام -بل سبقته- في إيصال البلاد إلى وهدتها: هل نسيت خيانات رموز مهمة من البرجوازية السورية عامي 1956 و 1957؟ أين موقع جريمة الانفصال السوري في عام 1961 مما نحن فيه؟ أليست المسؤولية الكبرى تقع على عاتق مرتكبه وداعميه من عسكريين ومدنيين؟ أين مسؤولية الإخوان وطليعتهم المقاتلة في إشعال فتيل الحرب الأهلية عامي 1976/1977؟ أين مسؤولية رموز يسارية مهمة في تسعير وتيرة الحرب الأهلية نهاية السبعينات عوضا عن أن يشكلوا مع أقرانهم في المعارضة العلمانية صمام أمان أو قوة ثالثة ترأف بالبلد من اصطراع اللدودين؟

أين مسؤولية معارضة "ربيع دمشق" في احتوائها على عدد

وافر من الذين نقلوا البارودة من كتف موسكو إلى كتف واشنطن وباريس وبرلين ولندن على خلفية حاجتهم الدائمة لراع كبير وحساسيتهم الكارهة للعروبة والإسلام. وهنا لست في حاجة لذكر أسماء وأكتفي بالإشارة لمن يكتبون في "النهار" و "المستقبل" وبعض من يكتبون في "الحياة".

أين مسؤولية الإخوان عن محاولة تسويق أنفسهم لواشنطن ولندن كواحد من البدلاء المنتظرين ينفع في نزع فتيل الجهادية الكامن في الشارع السوري؟ هذا مع العلم أن الإخوان -كإخوان- سيئوا السمعة لدى هذا الشارع لقناعته بأنهم من حولوا نظاما شموليا إلى شبه دراكولي... ومع العلم أن التدين المتعاظم هو في شق منه دفاع عن الجلد العاري، وفي الشق الآخر تعاطف مكتوم مع الجهادية وليس مع أمثال صدر الإخوان.

والأنكى والأمر أن كثيرا منكم بلغ به الحذق السياسي والرهافة الاستراتيجية أن ظن أن اللعب بورقة الكردية السياسية سيكفل استقواء منيعا أمام النظام فبدأت رحلات "الشتاء والصيف" إلى الحسكة والقامشلي تتوالى وندوات السمر المعارض تتناسل وأنتم لاهون عن أن جل -ولا أقول كل- هذه المعارضة -الإنشطارية التذرر- هي امتداد لمجمع "طارازاني" (طالباني وبرازاني) وهو ما ثبت في الشعارات والأعلام والهتافات التي رفعت في ذلك الـ آذار. أنا وأنت والجميع مع حقوق ثقافية خاصة للأكراد تطفو فوق حقوق المواطنة الأساسية وأيضا مع تجنيس من ظلم بحرمانها طيلة عقود. لكن أي أفق آخر هو أكثر من محظور.. نقطة آخر السطر. هناك في سورية شعب هو جزء من أمته العربية وليس شعوبا "تتموزك" في أمة "غير تامة".

كفوا عن هذا التدليل الأخرق لمجموعات مأجورة يفوق تعصبها الماقت للعرب عداوة نظيرهم إسحق موردخاي وأظنك متفق معي في هذه النقطة بالتحديد وهو ما بدا لي من حوارنا حولها العام الفائت.

أنا أستحي أن أخبرك بفجيعتي بأحد أهم رموزكم الذي قال لي بالحرف -صيف 2004 وأمام شاهدين- إنه يرحب بلقاء تلفزيوني على أي قناة إسرائيلية لكن رفاقه في حزبه ينهونه عن ذلك.

ثم بالله عليكم توقفوا عن هذه المناحة السقيمة في التباكي على الحريري وقمصانه. لقد باخت المسألة لدرجة الغثيان وتجلت كقنطرة ولوج بالمعاول إلى الداخل السوري تهشيما وإعطابا.

والحاصل أن ما يهمني من إعلانكم ليس خطأ التوقيت، فهذا ثانوي. لكنني أستشعر الخطر من جوهره وفحواه خصوصا مع التغطية المتزايدة من وسائل الإعلام لأنشطتكم وتحركاتكم.

الآن والوطن في خطر محيق ننتظر منكم مراجعة أمينة وحصيفة للإعلان ترفع منه وعنه ضلالات محشوة وتوفر ميثاقا للتواصل الناقد مع أهل الحكم يصلب من عودهم ويرفع عقيرته بالتنبيه والنقد إن أخطأوا وضلوا.

قد يقول قائل: لم لا تجيز لنا ما فعله النظام مع الخارج من صفقات وتسويات وتعاملات؟ والجواب بسيط وهو أن السلطة الحاكمة في أية دولة لها هامش من الحركة أوسع بكثير من هامش جماعات من مواطنيها فهذا منطق الدولة الصرف وليس فيه أي تبرير لبعض ما اتخذوه من سياسات أنت تعرف رأيي فيها. ثم هذا هو دوركم: إن وجدتم أو علمتم عن تهاون أو تصرف أو تجاوز مخالف لمنطق الوطنية السورية والعروبة الجامعة نددوا به وافضحوه وجادلوه.

تذكروا أمرا أساسيا -يا أخ ميشيل- وهو أن الشارع السوري في واد غير واديكم وسأدعوك الصيف المقبل للذهاب معي إلى أي مسجد تنتقيه لترى ما أعني. لكن ذلك لا يقلل من خطورة "الإعلان" والأضواء عليه مسلطة.

من هنا هذا الرد: يا صديقي إن ما يجري الآن أكبر عملية بلف سياسي في التاريخ الحديث للمنطقة. يريدون إسقاط النظام بأبخس الأثمان وصولا لتدمير الكيان السوري وإزالة عروبته ثم إعادة بنائه على شكل لمة طائفية/مذهبية مفدرلة تحرسها كردية سياسية مدججة وسدتها سنية سياسية مطوعة تناظر وتنابذ شيعية العراق السياسية التابعة.

البلف هذا سيقصر عن الغزو البري لكنه قد يشمل غارات جوية وصاروخية وإنزالات في العمق ومطاردات ساخنة في الشرق -كلها بذريعة القضاء على أحد منابع المقاومة العراقية-، إضافة إلى عقوبات اقتصادية من نوع ما، ورفع لسعر الدولار لمستويات غير مسبوقة وإعادة فيلم آذار 2004 الكردي بوتيرة أشد وربما فرض حظر جوي فوق مناطقهم، أضف إلى عمليات اغتيال وتفجير و و و و.

أتظن أن هذا كله سيتكفل بإسقاط النظام؟ وإذا ظننت، فهل البديل بأفضل؟ وإذا لم تظن فلم "الهوسة" التشرينية وبهذا الإيقاع؟

أستاذ ميشيل، أختتم بالقول إنه لو كانت المسألة أن تقوم قوى وطنية من الداخل بتغيير النظام سعيا إلى أفضل وأصلب وأعف لكنت -وغيري كثر- بين المؤيدين. أما وأن البديل مرتسم على الأفق يصرخ لمن كل من له بصر وبصيرة أن انظر فأنا آت... هنا اسمح لي: ترفع الأقلام وتجف الصحف.

الأخ ميشيل،

الود والرأي هنا متمازجان. ففي أوقات الخطر المدلهم يصبح الفرز بدهيا والاصطفاف قسريا والتخوم شديدة التحديد. لا زلت آمل أن نكون على نفس المقلب لا في خندقين متقابلين.

 

هاذي دمشق يا أخي ميشيل. أليس العز أوله دمشق؟