كيف أصبحت شيوعياً

ضيفنا لهذا العدد الرفيق الأستاذ الباحث زهير محمد ناجي.

أستاذنا المحترم أبو عمار كيف أصبحت شيوعياً؟.

بداية، لتتوضح الصورة أكثر، أرغب في الحديث عن والدي، فله الفضل الأول في تفتح وعيي الاجتماعي والسياسي والفكري، فهو من عائلة طرابلسية معروفة، ذهب في الخامسة من عمره إلى استنبول ليحيا في كنف شقيقه الكبير الذي يعمل بتجارة الحمضيات، والذي وفر له التعليم والعيش في بحبوحة، وبقي هناك حتى بلغ مرحلة الشباب، ثم عاد إلى طرابلس مشبعا بكره الظلم والاستعمار، وحين بلغ سن الخدمة العسكرية خدم في الأناضول برتبة ضابط، وعندما طلبوا تنفيذ حكم الإعدام ببعض الأبرياء (من غير الأتراك)، رفض الأمر وهرب إلى جبل لبنان، وبعد ذلك التحق بدارالمعلمين في بيروت، وتخرج فيها عام 1911 وعين في صيدا، ثم في عكار، وشاء له حظه أن يتعرف على أسرة والدتي في حي الصالحية بدمشق ويرتبط بها، فصار الطرابلسي شاميا. وباختصار كان والدي شاهدا على مآسي الحرب وانهيار تلك الدولة الني ينعتها بالمسكينة، فهي في رأيه وبكل سيئاتها أحسن من الامبريالية. كان منفتحا على كل الثقافات والأديان، ولعب دورا جليا في نشاط المعلمين ففي الانتخابات البرلمانية عام 1930 كان يدرّس في بلدة دوما قريبا من العاصمة حين وقعت صدامات دموية بين الوطنيين وبين المستعمرين وعملائهم في كل من دمشق وحماة ودوما، فكان أن صبّ الحكام جام غضبهم على المعلمين الوطنيين، واتهموهم بأنهم هم الذين يثيرون روح المعارضة والعصيان، لذلك جرى نقلهم من مدارسهم وتفريقهم على كل المناطق. ذاك أبي الذي زودني بالإنسانية وحب الناس وكره الاستبداد والظالمين.

ولدت عام 1927 بحي الشركسية في الصالحية، وتعلمت في الابتدائية الجديدة، ومن ثم في مدرسة الملك العادل، وحصلت على الشهادة عام 1941 ودخلت مدرسة الصنائع كطالب مقيم وتخرجت عام 1944. وأذكر من أساتذتي في الصنائع إليان ديراني وعبد الله نيازي ووديع شحيد ونجاة قصاب حسن، ولم تكن ميولي صناعية أو عملية بل أدبية، فقد كنت أعشق دراسة التاريخ، وأعتقد أن مدرس التاريخ هو الأقدر على تنويرالطلاب والناس عامة، فانتسبت إلى دار المعلمين الابتدائية وتخرجت عام 1948، وكنت الأول على كل دور المعلمين، فعينت في مكان سكني بدوما، ولم أرسل بايفاد إلى الخارج كما ينص نظام الامتحانات، بل أرسلت إلى دار المعلمين العليا، ونلت شهادتها عام 1953 وعينت مدرسا في بلدة جبلة، ثم انتقلت إلى دمشق ودرّست في ثانوية التجارة ثم في مدرسة اللاييك، وبعدها في إعدادية الروضة وثانوية جول جمال ثم سافرت إلى السعودية مدرسا لمدة أربع سنوات، وعدت لأحضّر الماجستير بجامعة دمشق ونلته عام1977، وكنت قبلها بسنوات أدرّس في ثانوية ابن العميد، ومنها نقلت عام 1975 للعمل في وزارة التربية، وظللت فيها حتى عام 1990، وأنا الآن متفرغ للبحث والدراسة التاريخية.

أما بشأن ذكرياتي السياسية فهي جدّ وافرة، فمنذ نعومة أظافري كنت أسمع عن السياسة والسياسيين، وطالما حدثني والدي الشيوعي بفكره -على الرغم من أنه لم يكن ملتزما تنظيميا - عن ظلم المستعمرين ونهب خيرات الشعوب واستعبادها، وعن ثورة 1905 وعن الاشتراكيين والفوضويين، وكذلك الحال في مدرسة الصنائع التي كانت بحق بؤرة ثورية، وبخاصة نشاط الجيل الأكبر منا الذي عايشناه حيث لم تكن المظاهرات الوطنية تهدأ يوما، وفي دار المعلمين العليا التي كانت وبجدارة مصنعا للوطنية، وجمعت خيرة شباب سورية حيث النضال السياسي والمظاهرات المستمرة ضد الديكتاتورية العسكرية، ولن أنسى أبدا يوم استدعاني عميد الدار الأستاذ حكمت هاشم وقال لي: إن الشيشكلي يهددنا بضرورة قمع (شغب) الطلاب، وإلا سيرسل ضباطا عسكريين مكان المدرسين لإدارة شؤون دار المعلمين، وحذرني قائلا: إن إضبارتك صارت (هالسمك)، لقد أصبحت شيوعيا ثوريا دون أن أكون حزبيا منظما، المهم كان الجميع يعرفون أنني شيوعي، وفي عهد الوحدة سجنت مع إخوتي الثلاثة في سجن المزة العسكري، ولما خرجنا منه فوجئنا بالوالد وقد فقد بصره تماما حزنا وحسرة على أبنائه الأربعة القابعين في السجن والعذاب، ومن الذكريات أيضا تلك الأيام الثلاثة الحرجة التي مررنا بها كمدرسين في ثانوية ابن العميد حين احتدم الموقف بين الطلاب نتيجة الشحن المغرض الذي مارسه بعض الظلاميين ومن جاراهم، وكادت الأمور أن تؤدي إلى مذبحة، وقد تمكنّا نحن المدرسين، أنا والأستاذ صلاح زلفو ومدرس مادة الديانة الأستاذ الورع وأنت كنت معنا وآخرون من إنقاذ المدرسة من مصيبة مدبرة، وقد (كوفئت) كما تعلم بنقلي للعمل في وزارة التربية، وآخر تلك المكافآت التي اعتدت على تلقيها من (أولي الأمر) جاءت عام 1990 حين أنهى أمر أصدره وزير التربية غسان الحلبي عملي في الوزارة والسبب (كوني شيوعيا).

إن الشيوعية كما أعرفها هي الدفاع عن المظلومين في العالم أجمع بدءا من عندنا. إن الشيوعية هي حزب وسلاح الفقراء المضطهدين لنيل حقوقهم، فإن لم تكن كذلك، فليترك الميدان لمن يستطيع أن يحقق العدالة والاشتراكية، ويقاتل ضد العدو الامبريالي وعميلته الصهيونية ومن سار في ركابهما.

إن الشيوعيين هم الأبناء المخلصون لشعبهم ولكل شعوب العالم المضطهدة المذلة المهانة. ولهذا بالتحديد أتوجه إلى جميع الشيوعيين على امتداد ساحة الوطن مهيبا بهم للعمل وبكل الصدق والعزيمة ليتوحدوا، لتعود الثقة بهم ، وأكرر القول: إن من لا يستطيع القيام بهذه المهمة الجليلة، فالأحرى به أن يترك الأمر ويتنحى جانبا، وسيأتي من يحملها بصدق وإخلاص واقتدار، وأظن أنني لا أتعدى الحقيقة عندما أقول: إن انقسام الشيوعيين ليس طبيعيا، وهو مصطنع من قيادات هي مسؤولة عنه، فإن كانت القيادات تعمل لتنتفع، فذلك هو أكبر عامل إساءة لكل تراثنا النضالي الوطني والأممي، ولن يكون إلا ضررا على الجميع، فلنكن جديرين بهذه المهمة الكبيرة، وأهلا لرفع الراية الوطنية المشرفة.

آخر تعديل على الأحد, 20 تشرين2/نوفمبر 2016 21:58