الافتتاحية ما العلاقة بين النمو.. والعدالة؟

ثمة من يعلن ويروّج أن هناك تناقضاً مستعصياً بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.. فالوصول لأحدهما يعني التخلي عن ثانيهما، وهو يستند في استنتاجه هذا إلى تجارب البلدان المتقدمة، ويدعونا بالتالي إلى السير بركاب التطور الرأسمالي (الذي أثبت أنه النظام الأكثر توحشاً في التاريخ)..

فهل هذه هي الحقيقة؟  للإجابة على هذا السؤال يجب الإجابة عن بعض الأسئلة الهامة:

- هل الفقر في البلدان المتخلفة، سببه وجود عدالة اجتماعية فيها؟

- هل النمو الهائل الذي جرى في البلدان الاشتراكية السابقة خلال مراحل صعودها تم دون عدالة اجتماعية؟

- هل التراجع الذي أصاب نمو البلدان الاشتراكية في عقودها الأخيرة كان سببه فرط العدالة الاجتماعية، أم التراجع عنها بشكل أو بأخر؟

- هل التقدم في النمو الهائل للقوى المنتجة الذي جرى في البلدان الرأسمالية المتقدمة كان سببه تمركز الثروة فيها بأيد قليلة فقط، مما أدى بالمقابل إلى عدم عدالة توزيع للثروة ضمنها، أم أن هناك عوامل خارجية أدت إلى هذا النمو، وتكمن في النهب الهائل للمستعمرات، ومن ثم استخدام وسائل الاستعمار الجديد عبر التبادل اللامتكافئ مع بلدان المستعمرات السابقة، مما أدى إلى تراكم هائل للثروات على حساب الغير؟؟..

لذلك يمكن الاستنتاج على أساس الحقائق السابقة، أن العلاقة بين النمو والعدالة تاريخياً ليست عكسية، فوجود العدالة الاجتماعية ليس سبباً لعدم النمو، كما أن النمو لم يكن دائماً يحقق العدالة الاجتماعية.

والترابط بين النمو والعدالة الاجتماعية حققته فقط الأنظمة الاشتراكية خلال صعودها، وتراجعت عنه بالتدريج خلال هبوطها، ورغم ذلك بقيت نظاماً أكثر فاعلية وإنسانية من النظام الأخر...

ولكن كيف الأمور اليوم في القرن الواحد والعشرين؟ هل بقيت المعادلة كما كانت عليه خلال القرن العشرين؟

إن الأزمة الرأسمالية الاقتصادية- الاجتماعية العالمية، تثبت اليوم أن هذه المعادلة قد أخذت اتجاهاً محدداً يختلف جذرياً عما كانت عليه الأمور في السابق.. فتراكم الثروة على المستوى العالمي وعلى مستوى كل بلد في ظل النظام الرأسمالي الذي أصبح النظام الوحيد السائد في العالم على المستوى الكلي والجزئي، أصبح مانعاً ليس فقط للعدالة، وإنما أيضاً للنمو نفسه، وأكبر دليل على ذلك ما يجري اليوم ليس فقط في تراجع معدلات النمو العالمية، وإنما أيضاً في تحولها إلى رقم سالب، فالمؤسسات الدولية تتوقع نمواً سلبياً على مستوى العالم كله، وعلى مستوى مراكز الإنتاج الرئيسي فيه... والأرجح أن هذا الميل سيستمر طويلاً، ما دام النظام الرأسمالي مستمرأً، وهو في ذلك يستنفد آخر مبررات وجوده..

إن الرأسمالية، واقتصاد السوق، كما يفضل البعض أن يسميها، لأن التسمية الأولى أصبحت مشينة في الوعي الاجتماعي، أدت إلى تمركز ثروة هائل يمنع تجديد الإنتاج، ويمنع تحقيق العدالة الاجتماعية، أي أدت إلى حدوث فائض إنتاج دائم بسبب انخفاض معدلات الطلب والاستهلاك، مما يبطئ ويوقف عجلة الإنتاج في نهاية المطاف... وإذا كانت المراكز الرأسمالية تخرج من هذا التناقض سابقاً عبر الانتشار خارج حدودها، فإن هذه العملية توقفت، لأن الانتشار اللاحق أصبح مستحيلاً بسبب تحول الرأسمالية إلى نظام عالمي، ففقدت بذلك احتياطها الأهم لتجدد نفسها في مراكزها على حساب الغير..

والأمر كذلك، أصبحت المعادلة على مستوى العالم، وعلى مستوى كل بلد، هي: تحقيق العدالة الاجتماعية هو الشرط الضروري للنمو اللاحق، أي بكلام أوضح، أصبحت الاشتراكية هي الحل الوحيد، بل الأوحد، لحل مشاكل البشرية، لأن مصادر نموها اللاحقة لن تتحقق إلا بالاستيلاء على الثروات المنهوبة والمتمركزة في أيدي قلة قليلة من الأفراد والبلدان، وإعادة توزيعها بشكل يضمن سير عجلة الإنتاج وتحقيق العدالة الاجتماعية. إن الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج الكبرى تحولت إلى عائق جدي ووحيد لتطوير البشرية...

إن المعادلة التي سمحت لسورية بتحقيق معدلات نمو عالية دون تحقيق مستويات مقبولة للعدالة الاجتماعية، وخاصةً في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، أصبحت غير قابلة للتكرار بسبب تغير الظروف، فإذا كان دور الدولة السابق قد أمّن تلك النتائج المعروفة، فعلى الدولة اليوم التفكير جدياً بصياغة دورها الجديد الذكي والقوي.. وإن فكرة اقتصاد السوق الاجتماعي تحديداً، تتطلب تحقيق هذين الشقين في آن معاً..

لذلك نعتقد أن أي نقاش جدي يجري في بلادنا حول العلاقة بين النمو والعدالة، يجب أن يأخذ هذه الحقيقة التي تثبت نفسها، بعين الاعتبار، وهذا سيعني بدوره، البحث عن دور جديد للدولة يحقق العدالة الاجتماعية، التي أصبحت ضمانة النمو اللاحق...

إن أي نظام لا يأخذ بالحسبان ضرورة تحقيق نمو حقيقي طريقُه الوحيد هو العدالة الاجتماعية، يفقد مبرر وجوده مع مضي الوقت، لأنه بحال أخرى سيبتعد عن العدالة الاجتماعية، ولن يحقق النمو المطلوب... وتحقيق العدالة الاجتماعية يتطلب أول ما يتطلبه إعادة النظر جذرياً بالعلاقة المختلة بين الأجور والأرباح، وخاصة عبر القضاء على الفساد الكبير الذي يتسبب بنهب واسع لثرواتنا، مما سيؤمن الموارد الضرورية للنمو اللاحق...

هذا هو السبيل الوحيد للخروج من الحلقة المفرغة التي يسببها النقاش المضلل حول العلاقة بين النمو والعدالة الاجتماعية، وفي ذلك ضمانة لتحقيق كرامة الوطن والمواطن...

آخر تعديل على الأربعاء, 03 آب/أغسطس 2016 23:36