الفخ المحكم للسياسات الليبرالية الجديدة

إنها المرة الثانية خلال بضع سنوات التي يفاجأ بها الكثيرون في العالم أجمع بزلزال جديد من حيث نتائجه على مختلف نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية والفكرية، زلزال جديد توقعه العقلانيون الواقعيون من ذوي الإيديولوجيات الإنسانية البعيدة عن المصالح الشخصية وعن ردات الفعل والجمود الفكري، وذلك من خلال تحليل علمي واقعي دقيق للظروف الموضوعية، وتحليل تاريخي وعميق للبنية الفكرية والمصالح المستمرة للقوى الامبريالية الحالية، والاصطفاء الذي وصلت إليه عبر معارك التصفية والاحتواء. فبناء على هذه الدراسات العميقة تم استشفاف الانعكاسات والنتائج التي ستنجم عن القبول بتنفيذ السياسات التي تروج لها وتفرضها القوى العالمية المسيطرة، محذرين منبهين لما ستكون عليه نتائج الاملاءات والوصفات والفروض من قبلها عبر أدوات ومؤسسات عالمية تنفذ رؤيتها من أجل هدف واحد، هو تركيز الثروات والأموال وعرقلة نمو الآخرين عبر سياسات نهب مزدوجة، هدفها استمرارية انصباب أغلب الفوائض في بنوكها وصناديق الشركات المتعددة الجنسيات، أما الجزء الباقي فيوضع في حساب فئات قليلة تضعها في بنوك المركز معتقدين أنهم قادرون على الاستفادة منها في الوقت المناسب الذي كانوا يعتقدون أنهم هم الذين يتحكمون به اعتماداً على دعم القوة المسيطرة الداعمة لهم، والتي هدفت من خلال دعمهم تكديس الفوائض في بنوكها من أجل عدم توزيعها واستثمارها بالشكل الذي يكون ذا فوائد جمة من ناحية كونه ذا قدرة على تحسين المستوى المعاشي للمواطنين، الذين يشكلون الثروة الحقيقية لأي بلد، بحيث يكونون يملكون القدرة النفسية والجسدية للعمل والإبداع والعطاء والتنشئة الصحيحة، وبالتالي منع  الكثير من الأمراض من الانتشار كالبطالة والفقر والجوع والجهل، كذلك تفريغ أي صراع من محتواه وتقوية وتمتين البنيان الاقتصادي وصولاً إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، وإلى تحقيق الفوائض التي تحول إلى رفاهية متزايدة، وتجعل المؤسسات الحاكمة ذات استقلالية في السياسات بكافة مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وبالتالي لا يمكن استلاب الحقوق الوطنية والقومية ولا يمكن التلاعب بالبنيان الداخلي المتين، ويمكن مواجهة معظم المؤامرات والتدخلات التي ما زالت تطبخ وستستمر في مراكز الأبحاث والدراسات الغربية من أجل التفنن في فرض الرؤى الأكثر قدرة على عرقلة ونهب الآخر بأقل الخسائر الممكنة.

وهكذا كانت الرؤية الغربية تدعو إلى الخلخلة الهيكلية للاقتصاديات الناشئة مدّعية الخير الذي يراد به الشر عن طريق فرض وصفات جاهزة على أغلب البلدان ذات البنى المختلفة، وذات الاختلالات المختلفة، وذات الثقافات المختلفة، تهدف هذه الوصفات في المحصلة إلى زرع بذور الخلاف والفوضى، وصولاً إلى الصراعات التي تأخذ أشكالاً مختلفة، وذلك عن طريق الظلم الاجتماعي الناجم عن القضاء على الطبقات الوسطى إحداث فرز جديد مبني على طبقة تتألف من شخصيات معدودة تمتلك وتتحكم بكل شيء، مقابل فتات شريحة وسطى والبقية مابين الفقر وتحت خط الفقر. ويتم ذلك عبر انسحاب الدولة من الحياة الاقتصادية وعن طريق رفع الدعم الذي تقدمه الدولة للسلع والخدمات، وإعطاء القطاع الخاص الدور الأكبر وتقليص حجم القطاع العام، وكذلك تحرير التجارة الخارجية والاعتماد على الضرائب والرسوم في دعم الموازنة، وبالتالي القضاء على القطاعات ذات الاقتصاد الحقيقي وتحويل البلدان إلى اقتصادات ذات هيكلية بحاجة إلى عشرات السنين من أجل العودة إلى النقطة التي انطلقوا منها، والعمل على تكوين مجموعة من أشخاص ذوي قوة مالية مرتبطين بقوى المركز.. كل ذلك بداعي الإصلاحات الهيكلية من أجل الانطلاق التنموي الكبير على المدى المتوسط.

هذه السياسات نجم عنها تزايد أعداد الفقراء ومن هم تحت خط الفقر باضطراد، بكل ما يرافق هذا الاكتظاظ بالفقر والفقراء من أمراض اجتماعية تؤدي إلى خلخلة البنيان الداخلي للبلدان والتهيئة للكثير من المفاجآت، بالإضافة إلى انقياد الدول إلى الاقتراض بشكل غير طبيعي والوقوع في دائرة الديون وفوائد الديون، الأمر الذي ينجم عنه استلاب القرار السياسي وفرض الشروط السياسية المجحفة، وهذا ما شكّل فجوة كبيرة تنمو بين الطبقات المسيطرة على المستوى المحلي وبين الشعوب المسلوبة الإرادة والثروة ومجهولة المصير، وبالتالي استطاعت هذه القوى بغباء مقطوع من تفريغ مجتمعاتها من نواحي كثيرة قيمية، إيديولوجية، فكرية..

إن الأمراض الكثيرة الناجمة عن الوصفات الغربية الكامنة في السياسيات الليبرالية المستلبة، أدت إلى فجوات عميقة بين الشعوب والأنظمة بحسب عمق التنفيذ والارتماء بين أحضان القوة المسيطرة، ما أدى إلى ردات فعل شعبية عنيفة أعادت إلى الأذهان البنية الحقيقية للأبناء الحقيقيين لهذه المنطقة، ولتكون تونس بداية الشرارة لنار مشتعلة متنقلة يكب عليها الغرب نفسه النار من أجل الاستفادة منها قدر الإمكان، والإحاطة بها وركوب الموجة في لحظات كشفت عن عهر السياسات الغربية المدعية بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية المرأة والحرية السياسية.. وهذا ما يدعو إلى التنبه لوجود سر ولغز وقوى غامضة، وخاصة مع غياب البرامج والأجندات المطلبية لأغلب هذه القوى الشعبية بعد الإطاحة ببعض الأشخاص، وكأن هناك من أوحى بالحفاظ على هيكلية معينة والتضحية بالكباش الثمينة على الرغم من أن هذه الكباش قد سمنت على معالف الغرب وبرعايته، الغرب الذي بدأ يتصدر الفضائيات ويعطي الأوامر ويدافع عن هذه الحشود متناسياً بأنه هو من أوصل هذه البلدان إلى ماهي عليه عبر أدوات لمعت ثم استهلكت، وهكذا فإن ما حصل في بعض البلدان العربية، ستكون له نتائج محلية إيجابية، لأن الامبريالية العالمية افتضح أمر ما تريده من فوضى متراكمة في جميع البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية عبر فرض السياسات الليبرالية وعبر فرض الرؤية السياسية منذ عدة قرون، وبهذا ثبتت صحة الرؤية التي كانت هي الأكثر  تعبيراً عن خطورة الانقياد والانجرار وراء الوصفات الجاهزة التي ظاهرها إعادة الهيكلة وزيادة النمو والتنمية، وباطنها ومسارها  الفوضى الشاملة وقطع التنمية ونهب وهدر الثروات، وبالتالي استهلاك المليارات الناجمة عن الثروات في التفتييت وفي الاستهلاك وفي الثراء غير المشروع، بدلاً من وضعها في الإطار الصحيح من أجل مواصلة النمو والتنمية، وبالتالي تقوية النسيج الوطني والاستقلال بكافة أشكاله.

إن الحكمة تقتضي مواجهة المشروع الجديد وإفشاله بالعمل على تفريغه من محتواه بسياسات مدروسة ودقيقة تكون حلاً للكثير من المشاكل الموجودة، ويكون هدفها العام تحقيق العدالة الاجتماعية بكافة جوانبها، وتطهير المجتمع من الفساد  والمفسدين وفق دراسة واقعية بعيدة عن الإقصاء والحقد والكره واللاوطنية، ومكافحة الهدر وتحسين مستوى معيشة المواطنين وتقوية دور الدولة، والتي ثبت أنها الوحيدة القادرة على قيادة بوصلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية بكفاءة وإنتاجية، وإن انسحابها أو التقليل من دورها له نتائج خطيرة.

لذلك يجب تعزيز الاستثمار الصحيح والفعال للموارد المحلية المالية والمادية والبشرية، وصولاً إلى النتائج التنموية الجيدة الموحدة للمجتمع والمحافظة على وحدته والقادرة على السير به بعيداً.

د. سنان علي ديب