الأكراد والفدرالية.. وأشياء أخرى

الأكراد والفدرالية.. وأشياء أخرى

في ظل المخاض العالمي الراهن، تمر منطقة شرق المتوسط، بظرف استثنائي، يفتح الباب على احتمالات عديدة. وفي هذا السياق من الطبيعي أن تتعدد الرؤى والمواقف والآراء حول شكل التطور اللاحق، لبلدان وشعوب المنطقة.

ولكن الثابت الذي لا يحق لأحد تجاوزه، هو المصير المشترك لهذه الشعوب، على أساس الاعتراف المتبادل بالحقوق، باعتباره معطى موضوعي، حيث تؤكد حقائق التاريخ، ووقائع الظرف الراهن، أنه لا يمكن لأي شعب أو دولة، أن تتطور بشكل حقيقي، إلا من خلال التكامل ووحدة المصير..
ضمن هذه الرؤية، نقدم فيما يلي جملة ملاحظات حول القضية الكردية، والمشاريع المطروحة على جدول الأعمال، ومنها مشروع الوثيقة المسماة بـ«النظام الاتحادي».
أولاً:
ربما يسجل لمشروع الوثيقة القول، بانتفاء عهد الدولة القومية، والذهاب إلى مفهوم فدرالية شعوب الشرق. ولكن يظهر التناقض فوراً، إذ أن الحديث عن فدرالية جزئية هو أشبه بعملية قيصرية، في المقاطعات الثلاث، المشمولة بتجربة الإدارة الذاتية في الشمال السوري. ورغم أن الوثيقة تؤكد، بأن مفهومها عن الفدرالية، لا تعني فدرالية قومية، إلا أن واقع الحال، والمستوى العالي للتجاذبات القومية، ودرجة التدويل الذي وصلت إليه الأزمة السورية، والخرائط الافتراضية التي تظهر بين الفينة والأخرى لدويلات على أنقاض الدولة السورية القائمة، والخطاب القومي الانعزالي، من بعض أوساط الإدارة الذاتية أحياناً، والتلميح بحلول جزئية، وتجربة الفدرالية في العراق التي توجت بطرح إمكانية الانفصال، والخلافات والتوترات في البيت الكردي نفسه، ومستوى التنسيق المرتفع مع الدول الأجنبية، وبالأخص مع الدول التي تتبنى المشاريع التقسيمية، ذلك كله من شأنه تلقائياً أن يثير أسئلة، ويولد ردود أفعال لدى شركاء الوطن، وعموم القوى الوطنية السورية، بخصوص مسوغات هذا المشروع ومآلاته.
ثانياً:
إن طرح الفدرالية في ظروف الأزمة السورية، وتعقيداتها وتشابكاتها الدولية والاقليمية، من شأنه، أن يرفع منسوب التوترات الطائفية والعرقية والدينية كلها، لأن البنى الاجتماعية الموجودة على الأرض السورية كلها تمر بمرحلة قلق وجودي، والوثيقة بذلك- بغض النظر عن النوايا- تتناقض مع فكرة الحفاظ على وحدة سورية، أرضاً وشعباً.
إن قيام الفيدرالية في سورية ليس قراراً فردياً أحادي الجانب من هذا الطرف أو ذاك، ولاسيما في ظروف الأزمة السورية ودرجة التدويل العالية التي تعتريها. وبهذا المعنى أيضاً فإن أية فدرالية جزئية، من طرف واحد دون توافق وطني شعبي عام، كالتي يدعو إليها مشروع الوثيقة، وما تركته من ردود أفعال أولية، من شأنها أن تجهض المشروع الاستراتيجي، القائم على وحدة مصالح وبالتالي نضال شعوب الشرق كلها، وإنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية المعاصرة، كاستحقاق تاريخي بعد فشل النموذج الرأسمالي الطرفي التابع.
ثالثاً:
لا شك أن شكل العلاقة السابقة بين المركز والأطراف في سورية، عانى من الكثير من الخلل، وأنتج العديد من المشاكل السياسة والاقتصادية الاجتماعية، ولا شك أن ذلك الشكل قد تجاوزه الزمن. وبغض النظر عن التسمية، فإن لامركزية إدارية موسعة، تحت مسمى الإدارة الذاتية أو أي مسمى آخر، تتضمن صلاحيات متوازنة للمجتمعات الأهلية، بما فيها انتخاب السلطات المحلية دون وصاية، أو هيمنة من المركز، هي ضرورة تاريخية في سورية، وأحد جوانب عملية التغيير الجذري الشامل المطلوب سورياً. وفي هذا السياق من الجدير بالذكر، أن كل لامركزية إدارية موسعة، تتطلب مركزاً قوياً وذكياً لحمايتها، مركزاً يستمد قوته من مدى التعبير عن مصالح الناس، وتأمين حقوقهم. ودون ذلك فإن مركزاً يصادر كل الصلاحيات، أو أطرافاً بصلاحيات متضخمة، تمتلك حق الفيتو، في ظل مرحلة انتقالية عالمياً، ومضطربة إقليمياً، تعني حكماً دولة هشة، عاجزة، مما يعني أن تبقى حقوق الكل ضمن بلد كهذا مهددة.
رابعاً:
ان مشروع وحدة نضال شعوب الشرق على أساس الاعتراف المتبادل بالحقوق، والذي يستمد مقومات وجوده، من وحدة الفضاء الجغرافي والاقتصادي والثقافي، يفتح الباب أمام مرحلة تاريخية جديدة، تؤمن التطور الحر والمتوازن لشعوب المنطقة كلها، بعيداً عن المشاريع الاستعمارية، القائمة على ضرب الكل بالكل، ضمن سياسة الاحتواء المركب للنخب المتصارعة، والتي تستغل التراكمات التاريخية كلها، وممارسات وجور النظم، وقصر نظر بعض القيادات المحلية، وردود الأفعال المختلفة، لتصعيد التوتر، وللوصول إلى هدفها ببقاء هيمنتها على العالم.
خامساً:
إن الاستفادة من ميزان القوى الدولي الجديد، بالذهاب الى الحلول السياسية، ومناقشة القضايا المتراكمة والعالقة والمستجدة كلها على طاولة الحل السياسي، والخروج من «دوامة سايكس بيكو، بمنطقها التفتيتي القديم والجديد» التي تدور ضمنها أغلب البنى السياسية في بلدان المنطقة، هي فرصة تاريخية، ربما لن تتكرر إلا بعد عقود، وعليه فإن الـ«خطأ ممنوع».
وعود على بدء، يعتبر المآل الراهن للقضية الكردية، وتعقيداتها كلها، نتاج تراكم وتفاعل ثلاثة عوامل:
الخرائط التي رسمها المهندس الغربي في بدايات القرن الماضي، «سايكس بيكو»
سياسات الأنظمة في البلدان الأربعة للوجود الكردي، في عهد الدولة الوطنية.
الأخطاء الاستراتيجية للقيادات القومية الكردية.
نعتقد أن أية قراءة صحيحة منهجياً للقضية الكردية، وسبل حلها يجب أن تأخذ هذه القضايا الثلاث بعين الاعتبار مع التأكيد بأن العاملين، الأول والثاني، هما العاملان الأساسيان في التراجيديا الكردية التاريخية، لكنهما يبقيان عوامل طبيعية وموضوعية، ومن المفروض أن تكون متوقعة، بحكم بنية تلك القوى التي كانت سبباً لها، وعملت على استمرارها، إذ من الطبيعي أن ترسم قوى تقاسم النفوذ الخرائط دون أي اعتبار سياسي أو أخلاقي إلا مصالح الغرب الرأسمالي. أما الأنظمة، باعتبارها أنظمة رأسمالية تابعة-على الأقل بالمعنى الموضوعي- فمن الطبيعي والمتوقع أن تكون عاجزة عن حل المهام الوطنية بالمعنى العام، وأن يقتصر جلّ نشاطها على إدارة الأزمات التي توجدها ممارساتها وليس حلها، حيث لم تنجز المهمة التاريخية المطلوبة منها، وهي بناء الدولة الوطنية بناءً حقيقياً، والتي كانت وما زالت تتضمن ثلاثة مهام مترابطة، وهي، إنجاز المهام الوطنية بمعنى توفير مقومات الحفاظ على السيادة الوطنية والاستقلال الوطني، والمهام الاقتصادية الاجتماعية، بمعنى تحقيق عملية تنمية وطنية متوازنة ومستدامة وعادلة، والمهام الديمقراطية، التي تشكل القضية القومية الكردية أحد أهم جوانبها في البلدان الأربعة. أي أن التطور التاريخي في هذه البلدان، تشوه  بشكل عام، ليس فيما يتعلق بالكرد وحقوقهم فقط، بل إن القضية الكردية هي جزء من أزمة شاملة تعصف ببلدان المنطقة كلها، في الدول كلها التي اتبعت هذا النموذج في التطور التاريخي.
ومن هنا، فإن البحث عن حل خاص ومنفرد وجزئي ضمن هذه البنية، وخصوصاً بعد تفجر الأزمات في هذه البلدان، يعتبر ضرباً من المستحيل، وعامل توتير جديد إضافي، وميدان جديد للتجاذب الإقليمي والدولي، وتالياً إضرار بمصالح الكل، بغض النظر عن كونه حقاً مشروعاً أم لا.
أضحت خرائط سايكس بيكو من الماضي، والأنظمة الرأسمالية الطرفية استنفدت دورها التاريخي. وعليه، تمر القضية الكردية ضمن الشرط التاريخي الراهن بمرحلة استثنائية، حيث الأبواب مفتوحة أمام احتمالين:
- احتمال تأمين الحقوق القومية الكردية، ضمن حل عام لأزمات بلدان المنطقة.
احتمال، إضاعة الفرصة التاريخية، مرة أخرى، كما حدث مرات ومرات، بحكم سياسات قصيرة النظر. 
وبالتالي تضع هذه المرحلة القيادات القومية الكردية وعموم القوى الوطنية والديمقراطية، أمام امتحان تاريخي، هو ضرورة التقاط اللحظة التاريخية، والتفاعل معها وفق منظور علمي، ينطلق من معرفة اتجاه التطور التاريخي، وفهم حقيقة توازن القوى الدولي والإقليمي والمحلي، وأخذه بعين الاعتبار، والإمساك بالحلقة الأساسية، أي الأخذ بخيار الاندماج الطوعي والتكامل، في إطار عملية التغيير الجذري والشامل، التي تؤمن حقوق الجميع.
وفي هذا السياق، تعتبر النخب السياسية والثقافية والاجتماعية، جسر تواصل بين الشعب الكردي والشعوب الأخرى، وبالتالي فإنها تتحمل المسؤولية التاريخية أمام الشعب الكردي، والشعوب الأخرى، في وضع الاستراتيجية الصحيحة والمناسبة.