غيث الخوري غيث الخوري

إدمان التدخلات الخارجية..

تطرح قوى المعارضة التي كانت قبل أيام قليلة منضوية تحت مسمى «المجلس الوطني» نفسها بديلا للحكم في سورية، ويأتي هذا من خلال المساعي «لتوحيد» قوى المعارضة السورية، والتي كان الأمريكان أول من أطلقها، كل ذلك كان ضمن سيناريو إسقاط النظام بواسطة التدخل العسكري المباشر. اليوم يعاد الطرح من جديد، بعد أن وضعوا بالحسبان تراجع إمكانية التدخل العسكري المباشر، إلا أنهم لم يتخلّوا عن مقولة دعم الدول الغربية والخليجية إضافة إلى تركيا لرحيل النظام في سورية، والذي أصبح من الواضح أنه مرسوم ضمن سيناريو التصعيد العسكري ثم الذهاب نحو المفاوضات. من هنا جاء الإعلان عن «ائتلاف قوى المعارضة والثورة السورية» أو «ائتلاف الدوحة» الذي يمثل شكلا جديدا للتفاوض بعد مستوى تصعيد عسكري محدد..

كان للولايات المتحدة دور كبير في التغيرات الجديدة التي طرأت على قوى المعارضة تلك، الداعمة للتدخل العسكري الخارجي المباشر وغير المباشر، وتضاف تلك التغيرات إلى السجل الطويل للعلاقة ما بين تلك المعارضة وأمريكا، إذ أن التحول الذي جرى من مجلس مشكّل على أساس شرعنة هجوم عسكري على سورية إلى ائتلاف يمثل إحدى بوابات التدخل العسكري غير المباشر، عبر التسليح والدعم المالي، جاء على خلفية تصريح هيلاري كلينتون بضرورة تمثيل المعارضة عبر قوى كانت تعيش فعلاً في سورية، وليس بشخصيات مضى على وجودها في المهجر أكثر من ثلاثين عاماً. وبالفعل فقد جرى تغيير الصف الأول في المجلس الوطني بصف أول جديد في الائتلاف يحتوي على شخصيات كانت في الداخل حتى أمد قريب. يعكس هذا التفصيل مدى ارتهان تلك المعارضة للمشيئة الأمريكية، وفقدانها لأي قدر من الاستقلالية في القرار، وهنا ينبغي العودة إلى تاريخ العلاقة ما بين هذه المعارضة، التي يشكل فيها الإخوان المسلمون الغالبية إضافة إلى شخصيات مثقفة وعلمانية ويسارية سابقة، من جهة، وما بين الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، وسنقتصر في هذه القراءة على الفترة التي تبدأ منذ الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 وتمتد حتى الآن.

المحطة الأولى بعيد احتلال العراق، يكشف عن تفاصيلها المعارض السوري محمد سيد رصاص، في مقاله « المعارضة السورية ومطب الاستعانة بالخارج» الذي وضّح فيه بصورة جلية أن وعود الأمريكان لهؤلاء المعارضين السوريين، بأن ما حصل في العراق 2003 سيتكرر في سورية، ما كان إلا بهدف استخدامهم كأدوات للضغط على النظام، باتجاه تقديم تنازلات محددة، وردت لاحقاً في إملاءات كولن باول وزير الخارجية الأمريكي آنذاك على دمشق، والتي رفضت بأكملها، هذه كانت أول عملية تضليل لتلك المعارضة، كان من المفترض أن تفضي إلى دروس واستنتاجات هامة حول التكتيكات التي مارستها الولايات المتحدة في الملف السوري.

لم تتوقف المسألة عند هذا الحد، إذ لم تتحلَّ تلك المعارضة بأي قدر حتى من البراغماتية في التعامل مع الأمريكان أو مناورتهم، فقد تكرر المشهد ذاته في مرحلة ما بعد اغتيال الحريري وحتى حرب تموز، فبدلاً من أن تعي تلك المعارضة أن صلاحيتها أمريكياً تنتهي مع تقدم الولايات المتحدة في مشروعها، مشروع الشرق الأوسط الجديد، القائم على إعادة تقسيم المنطقة إلى مكوناتها الطائفية والعرقية والإثنية، بادر ما سمي آنذاك «إعلان دمشق» إلى الانحناء مجدداً عبر صيغته التي خاطبت «مكونات الشعب السوري» تماشياً مع الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، ولابد أن هذا السلوك السياسي لتلك المعارضة، الذي يعكس بنيتها الهشة، أوحى للأمريكان بإمكانية استثمارها من جديد في ضغوط لا ترمي إلى تمكينهم سياسياً بل إلى استخدامهم للضغط على النظام، إذ أن الأمريكان لا يثقون بهذه المعارضة كبديل للحكم بسبب بنيتها التي عانت بسببها من قطيعة جماهيرية شديدة..

المرحلة الثالثة الأهم والأخطر على وجه الإطلاق، والتي جددت الأمل لدى تلك المعارضة هي الأزمة الحالية التي تعصف في البلاد، والتي تتميز عن سابقاتها بأنها ترافقت مع انفجار داخلي شديد، وسبقتها تجربة ليبيا، التي كانت النموذج المثالي المنشود لتلك المعارضة، إذ أن تجربة ليبيا، والعراق في وقت سابق، ضمنت انتقال السلطة إلى معارضة خارجية محددة، تشبه مجلس إسطنبول أو ائتلاف الدوحة، إلا أن الأزمة السورية شأن أي حدث تاريخي حملت في جيوبها الجديد الخاص بها، والذي يتمثل بتراجع إمكانية التدخل العسكري الخارجي إلى قدر كبير، بسبب الفيتو الثلاثي المزدوج الروسي الصيني، ما شكّل خيبة أمل جديدة لدى هذه المعارضة.

تغيب الثقة الأمريكية بهذه المعارضة كبديل للحكم، لكنها لا تغيب أبداً كأداة للضغط والصراع مع الأنظمة القائمة، فقد أثبتت الوقائع في العراق وليبيا أن الأمريكان يعتمدون على قوى الفساد في الأنظمة، التي تلتزم البقاء في الظل، والتي تساعدها بنيتها اللاوطنية وخبرتها الطويلة في التعامل مع عقلية المجتمعات في المنطقة، فهناك على سبيل المثال شخصيات هامة في الحكم في مرحلة ما بعد احتلال العراق تنتمي إلى زمن صدام، وأهم رموز المجلس الانتقالي في ليبيا هم وزراء سابقون لدى القذّافي. أما رموز تلك المعارضات فغالباً تغيب بعد أن تستنفد دورها سياسياً وشعبياً في الصراع مع الأنظمة، وأيضاً بسبب سمعتها التي تتدهور كلما ظهرت علاقتها الدونية مع الغرب، ومثال ذلك الاستجابة السريعة من جانب مجلس إسطنبول لتصريحات هيلاري كلينتون ونصائح فورد في الدوحة.

يعود سلوك هذه المعارضة التي تقع في المطبّ ذاته عشرات المرات إلى أنها لا تثق بذاتها ولا بإمكاناتها الذاتية في إمكانية كسب الشارع السوري، لذا تبحث عن طريق آخر هو طريق التدخل الخارجي لتنفيذ «برنامجها»، الذي هو برنامج الغرب في جوهر الأمر، أما هي فتلعب دور «المتعهد» الذي ترسو عليه مزايدة الولاء للولايات المتحدة الأمريكية..