الاعتداء على الدور الوظيفي للدولة

ضاقت البلاد ذرعاً، منذ ما يقارب السنتين، من ممارساتٍ أخذت بشقِّ طريقها نحو تثبيت ذاتها وشرعنة وجودها في المجتمع السوري. اليوم لم يعد التشبيح ظاهرة سياسية عمادها كم الأفواه التي تنادي بالمطالب المُحقَّة للشعب السوري فحسب، بل تعدَّت ذلك نحو الاعتداء الصريح على الدور الوظيفي لجهاز الدولة السوري من جهة، والمتاجرة بلقمة عيش المواطن السوري، الذي يتحمَّل وحده نتائج الأزمة، من جهةٍ أخرى.

الفساد يجند المهمشين

تحت لواء مجابهة المؤامرة التي تتعرض لها سورية، استثمرت قوى الفساد الكبير في النظام السوري الوضع المعيشي المتدني وتفشي البطالة بين فئات المجتمع المُهمَّشة، فجنَّدت العديد من الشباب السوري المُعطَّل عن العمل، وزجّت بهم في حربها مع نظرائها الفاسدين في المعارضة المسلّحة. هذا ما عرّض البلاد إلى مغبّات حمل السلاح من الشباب السوري المُشبع بتحريضٍ إعلامي أثّر بنسبٍ متراوحة في الوعي الجمعي للشعب السوري. هذا ما ضاعف من النتائج الكارثية للأزمة السورية، فأُضيفَ إلى رصيدها وجود المجموعات التي أُطلق عليه تسمية «الشبيحة»، والتي عاثت، كغيرها، في البلاد فساداً وتدميراً. وتجاوزت حدودها في المقامرة بقوت الشعب، والاعتداء على الدور الوظيفي لجهاز الدولة السوري، فدخل الشبيحة على خط ما خلفته المعركة العسكرية من تدهور في الوضع المعيشي، فساعدتها سطوتها المسلّحة بالاستيلاء المستمرّ على كميات كبيرة من جرّات الغاز وربطات الخبز... الخ، ما فتح لها الباب للسمسرة الشعواء بالمتطلبات اليومية للشعب السوري. وفي الواقع، لم يكتف الشبيحة بتوليد المزيد من العنف في سورية، بل اتجهوا نحو ما هو أكثر خطورةً، وأكثر تشويهاً للثوابت الوطنية، وهو ضرب الصورة الوطنية للمؤسسة العسكرية في سورية، سواءً بالطريقة المباشرة عبر انتحال صفة الجيش السوري، أو غير المباشرة عبر الإيحاء بأنهم جنود في المؤسسة العسكرية السورية، ولربما يجدر التساؤل هنا، ما هي مصلحة قوى الفساد الكبير، التي جندت شبيحتها، في ضرب هذه المكانة الوطنية التي يتمتع بها الجيش؟..

استثمار المصالحة الوطنية

أضفت مجموعات الشبيحة على نفسها مسمّى «اللجان الشعبية» في بعض الأحيان، والهدف الواضح من هذه التسمية يتجسد بعاملين اثنين، أولهما إضفاء شرعيّة شعبية على وجودها، وثانيهما ضرب قدرة الشعب السوري على خلق لجانه الحقيقية التي تتولى تأمين مستلزماته وحفظ الأمن داخل أحيائه،  وفي المعركة استثمر الشبيحة قضية المخطوفين، فما حصل في أكثر من منطقة، من قيام «اللجان الشعبية» بالتفاوض مع نظرائهم في التشبيح من «المعارضة» المسلّحة عبر إطلاق سراح المأسورين مقابل مبالغ مالية معيّنة، يُسقِط أي قناع وطني يمكن لهذه المجموعات أن تلبسه. وعمدت قوى الفساد الكبير إلى إجهاض تجارب المصالحة الوطنية، إما عبر خرق الهدنة في المناطق التي نالت المصالحة الوطنية قسطها الوفير فيها، وإما عبر المتاجرة بالمخطوفين المدنيين وابتزاز ذويهم تحت غطاء لجان وهمية مُسماة زوراً بلجان المصالحة الوطنية. هذا ما يُضاعف المسؤولية الوطنية الحقيقية التي تقع على عاتق السوريين جميعاً، والمتمثلة بالانخراط في لجان التسيير الذاتي التي أخذت بالتشكُّل، والقادرة، إذا ما استمر الشعب في تقوية عودها، على توفير متطلباتهم بأيديهم، فدروس التاريخ الكثيرة علّمت الأجيال أن مطالب الشعب المُلّحة لا ينتزعها سوى الشعب بتضافر قواه والإيمان بقدرته على التغيير اللازم في المجتمع.