عندما يعجزون.. نقلع شوكنا بأيدينا!

تقترب الأزمة من سنتها الثانية، ويصل السوريون إلى حالة معيشية وأمنية خطيرة، تهدد في حال استمرارها بالانهيار الشامل للاقتصاد السوري، وتنذر بخطر تفكك وحدة كيان الدولة والمجتمع. لكن رغم سوداوية المشهد وكارثيته، يبقى السوريون «محكومين بالأمل»، وحتى يتحول هذا الأمل من إمكانية إلى واقع أفضل، لا بدّ لنا أن نعرف على من نعوّل لإنقاذنا، بعد وصول جهاز الدولة إلى حالة العجز عن تأدية وظيفته في حماية حياة المواطنين وأرزاقهم وتسيير أعمالهم، لأسباب باتت معروفة، من فساد وتخريب ممنهج بدأ منذ سنوات قبل اندلاع الأزمة، ولاسيما منذ إدخال «حصان طروادة» النيوليبرالي إلى أرضنا، وتفاقم بانخراط جزء من النظام وجزء من المعارضة في تعطيل وتدمير مؤسسات الدولة، سواءً عن قصد وتآمر لتحقيق مكاسب أنانية ضيقة ومرتبطة بالعمالة لمشروع الفوضى الخلاقة الأمريكي-الصهيوني، أو بغير قصد بسبب نظرات قاصرة أو رهانات سياسية انتهازية.

 

دور الطبقة العاملة

لا نسعى هنا إلى إعطاء أي تبرئة أو تبرير لتقصير وغياب جهاز الدولة عن تحمل مسؤولياته، بقدر ما نحاول توصيف واقعه الموضوعي السيئ، الذي يبزر يوماً إثر آخر حاجة موضوعية ملحّة لدى أبناء الشعب السوري للبحث عن بدائل من أجل ملء الفراغ الناشئ، لحماية موارد رزقهم وحياتهم، على عدة مستويات من الخدمات البسيطة والإنتاج الصغير وصولاً إلى الإنتاج الكبير. ولعلّ أهم ما يسترعي الاهتمام هو مؤسسات الإنتاج الواسع والكبير، وذلك لأنها تشغل عدداً كبيراً من الطبقة العاملة السورية بين قطاع عام وخاص، تلك الطبقة التي لا تملك سوى قوة عملها - رأسمالها الحي، ولا تستطيع أن تستفيد منه إلا إذا بذلته في تشغيل رأس المال الجامد - وسائل الإنتاج ومؤسساته، تبدأ اليوم، وبشكل عفوي على ما يبدو، وتحت الضغط الموضوعي لحاجتها، بأخذ مؤسساتها في أيديها، والدفاع عنها، وإعادة تشغيلها، ولنا في المأثرة التي اجترحها عمال شركة «تاميكو» قدوة حسنة، ونموذج عميق الدلالات، إذ أصرّ العمال على الاستمرار بالقدوم إلى عملهم، وأعادوا إحياء الآلات، وسيّروا خطوط الإنتاج، ضاربين بذلك مثالاً يحتذى في الوطنية والصمود، رغم تعرض هذه الشركة، التي تنتج نحو %60 من حاجة سورية الدوائية، إلى عدة هجمات مسلحة وتخريب وسرقة كثير من ممتلكاتها وترهيب عمالها وتهديدهم بالقتل.

يفتح لنا هذا المثال باباً للأمل وواحداً من الحلول الإبداعية التي يمكن تطبيقها، علها تساهم في التخفيف من أعباء الأزمة، عبر اعتماد الأشكال المناسبة للتسيير الذاتي الشعبي، وقد سبق وأن رأينا في الواقع بعض النماذج الناجحة من لجان الرقابة الشعبية، التي شكلها الأهالي لمراقبة توزيع المحروقات، ومكافحة فساد تجار الأزمات، ولعل سر نجاحها يكمن في الحامل الطبقي لها، إذ نجحت عموماً عندما تعهدتها الطبقة العاملة، بالمقارنة مع تلك التجارب التي لم تجلب سوى الفشل في تحقيق الأمن الحياتي والاقتصادي، بل زادت الطين بلة وعقدت الأزمة، وأقصد تجارب الميليشيات المسلحة، سواء من «اللجان الشعبية» المشكلة من مهمشين وعاطلين عن العمل تمّ توظيف بعضهم كمرتزقة عند قوى الفساد داخل النظام، وكذلك الجزء من «مسلحي الثورة» المهمشين والعاطلين عن العمل أيضاً الذين تمّ توظيف بعضهم كمرتزقة عند قوى الفساد خارج النظام.

خلف هذين النوعين المختلفين ظاهرياً من الميليشيات المسلحة، وخلف هذا الستار الذي يتخذ أشكال صراع طائفي ومناطقي وقومي، تقف الشرائح الأكثر فساداً، والمتنافسة فيما بينها من الطبقة البرجوازية الكبيرة الواحدة نفسها، الموزعة داخل جهاز الدولة وصفوف النظام وخارجه وفي صفوف المعارضة.

 

ماذا عن البرجوازية؟

حتى الشرائح «المسالمة» من البرجوازية الكبرى، التي لم تتورط في التسليح وتسعير الاقتتال، لا يمكن التعويل عليها، ولنا في هروب كثير من أصحاب المصانع من حلب إلى مصر وغيرها، مثال على ذلك، الأمر الذي يقدم برهاناً واقعياً جديداً يحسم النقاش حول ما كان يسمى «برجوازية وطنية» أو على «الدور الوطني للبرجوازية» في عصر الإمبريالية وأزمتها، إذ قامت الأزمة بكشف الخطأ المدمر في الاعتماد وحيد الجانب على القطاعات الريعية غير الإنتاجية، وحملة مشروعها من البرجوازية المحدثة والطفيلية، العاجزة ليس عن تحقيق أية تنمية أو تحديث أو تطوير، أوعدالة اجتماعية فحسب، بل وحتى عن نيل علامة الصفر بالإبقاء على حد أدنى من مستوى المعيشة والحالة الأمنية على حالها. فاليوم أكثر من أي وقت مضى يثبت إدانة أولئك الفاسدين بجرم أن «أوطانهم في جيوبهم»، كما ويؤكد على صحة مقولة «دع الفقراء يعيشوا بكرامة، فهم قاطرة النمو»، وليس هذا فحسب، بل أكثر من ذلك إذ أنّ هذا يجعل التساؤل مشروعاً فيما إذا كان ممكناً الخروج من الأزمة دون الاعتماد الأساسي على الطبقات الكادحة ومبادراتها في تشكيل هذا النوع من لجان التسيير الذاتي، وقد يعترض البعض على الفكرة، بحجة أنها ستضيف طرفاً مسلحاً جديداً إلى الصراع الدائر في البلاد، لكن من يا ترى أفضل وأصدق وأكثر التزاماً وحرصاً على مصلحة الكادحين وأرواحهم وأمنهم من الكادحين أنفسهم؟!

 

وزن الطبقة العاملة في الحلّ

إذا كانت تجربة الأزمة قد أثبتت أن لا حلّ سوى بالوصول إلى حل سياسي عبر الحوار الوطني الشامل، فإنّ ورقة عباد الشمس في كشف درجة وطنية هذا الحوار إنما هي مدى تمثيل الطبقات الكادحة ومصالحها على الطاولة، ووزنها والمكتسبات التي ستنتزعها من نتائجه، وإذا كان تغيير النظام بات أمراً ضرورياً لا مفرّ منه من أجل إنقاذ سورية الوطن والشعب من سقوط يجعلها معوّقة أو مشظاة، أي يمكن أن ينقذها من «سقوط النظام» حسب المشروع الأمريكي-الصهيوني وحملته وأدواته اللاوطنية داخل المعارضة والنظام، فإنّ معيار مدى وطنية وجذرية هذا التغيير سترتسم ملامحه الأولية في مدى قرب أو بعد نتائج الحوار عن مصالح الطبقة العاملة بالتحديد، وهذا يعتمد بوضوح على مدى قدرة المشروع والبرنامج الاشتراكي البروليتاري الحقيقي، عبر حوامله السياسية، من كسب انتصارات في الصراع الطبقي ضد المشروع الليبرالي البرجوازي وحوامله السياسية، الأمر الذي يؤكد من جديد ضرورة الانتقال بأسرع ما يمكن إلى ساحة معركة الحوار والحلّ السياسي، بعيداً عن ساحات الاقتتال والعنف المسلح العقيم.