بانوراما: «سورية 2012 على مفترق طرق» وما تزال..

بدأت صفحات الملف «سورية على مفترق طرق» بالظهور مع انطلاق الحركة الشعبية في آذار 2011، وتحولت هذه الصفحات إلى باب ثابت في «قاسيون» حاولت الجريدة من خلاله تحليل الظرف السوري المتسارع وتوضيح رؤية حزب الإرادة الشعبية للحدث، وحاول الملف من جهة أخرى تلمس المهمات الواقعية المطلوبة للخروج الآمن من الأزمة نحو سورية الجديدة عبر طريق الحوار والحل السياسي المستند إلى الحركة الشعبية كضرورة موضوعية في عملية التغيير الجذري الشامل..

 

«سورية على مفترق طرق» وما تزال.. ذلك أن الأزمة التي نعيشها الآن لم تولد في آذار 2011 ولكنها انفجرت في آذار بعد تراكم دام سنوات عديدة، تراكم في الفقر والبطالة والتهميش وفي سوء التوزيع وسوء الإدارة وفي الفساد الذي وصل في مطارح عدة إلى نقي العظام، تراكم في الآهات والمظالم المكتومة وتدنٍ كبير في مستوى الحريات.. وسورية على مفترق طرق لأن الأزمات الصغيرة لا تنتج بالضرورة انعطافات كبرى، والأزمة التي نعيشها هي أزمة كبرى تراكمت عواملها واتحدت في تركيب معقد يشمل المجالات كلها من الاجتماعي إلى الاقتصادي فالديمقراطي والسياسي، هي أزمة كبرى ولذلك فهي تؤذن بانعطافات كبرى ...

نستعرض في هذه البانوراما بعضاً من المفاهيم الأساسية التي تبلورت على صفحات الملف خلال العام الفائت والتي أثبت الواقع صحتها وتحولت إلى مفاتيح ضرورية لفهم الواقع السوري ومن ثم كأدوات فاعلة في كسر الاصطفافات الوهمية الطائفية والقومية، وفي تعميق الفرز الحقيقي بين وطنيين من جهة وفاسدين ومرتبطين من جهة أخرى..

سنعتمد في تقسيم البانوراما على محاور أساسية تشكل في مجموعها المفردات الأساسية للواقع السوري، وسنستخدم اقتباسات من مواد متنوعة نشرت في الملف خلال العام الماضي. نحاول في هذه البانوراما تقديم تكثيف سلس قدر الإمكان للرؤية التفصيلية التي تشكلت لدينا خلال العام الماضي، وخير بداية هي الحركة الشعبية التي نعول عليها كثيراً..

الحركة الشعبية قدر موضوعي

جاءت الحركة الشعبية، كما أسلفنا، نتيجة لتراكمات طويلة. جاءت لتحل مشكلات معلقة طال انتظار حلها (من فوق) دون جدوى وهو الأمر الطبيعي، فمسائل إعادة توزيع الثروة ورفع سقف الحريات السياسية لم تمنح يوماً بالمجان، ولكنها دائماً ما كانت تنتزع انتزاعاً. ولمنعها من انتزاع حقوقها، عمل أعداء الحركة الشعبية على محاولات استغلالها وامتطائها منذ بداياتها الأولى، لكن مشكلتهم الكبرى كانت في عدم معرفة أبعاد هذه الحركة وموضوعيتها.. «يخطئ النظام إذ يتعامل مع الحركة الجارية على أنها مؤقتة وعابرة، وتخطئ (المعارضة) حين تتعامل معها على أنها ستحتفظ بدرجة وعيها السياسي المنخفض حالياً.. يجمع الطرفين عدم فهمهما لموضوعية الحراك الجاري، وهما وإن اعترفا بذلك عرضاً فإنهما لا يضعان الحراك ضمن سياقه التاريخي والجغرافي الحقيقي الأمر الذي ينتج عنه بالضرورة ممارسات وسياسات خاطئة لن تفعل سوى أنها ستعمل على تأخير القدر القادم..»

لم تمنع أخطاء الحراك وتدني وعيه السياسي الجهات التي فهمت موضوعيته، لم تمنعها تلك الأخطاء عن مساندته والدفاع عنه ضمن فهم محدد لسيرورة تطوره والظروف التي انطلق منها، ولم تمنعهم أيضاً من انتقاده باستمرار وبجرأة في مقابل من تبناه بأخطائه وقدسّه وتركه ليلاقي مصيره دون أية مسؤولية وطنية أو تاريخية لأن «الحرص على الحراك الشعبي يتطلب بالضرورة نقده، والإضاءة على أخطائه التي هي أمر طبيعي موضوعياً، لأنّه كتعبير عن المجتمع يحمل كلّ ما في هذا المجتمع من خصائص تاريخية موروثة بحسناتها وسيئاتها،  ويختلط كثيراً ما هو تقدمي مع ما هو رجعي..»

إن التعويل على الحركة الشعبية وتطورها من العفوية نحو التنظيم هو أحد الأساسات التي بنى ويبني حزب الإرادة الشعبية سياسته عليها، وهي تتفق مع مرجعيته الفكرية التي ترى في الناس العاديين صناعاً للتاريخ، «فإن الحركة الشعبية ستكون العامل الحاسم والمكون الأساسي في الفضاء السياسي الجديد، فضاء لا يأخذ من القديم إلا العناصر الواعية لجوهر التغيير المطلوب على مستوى المجتمع والدولة، أي القوى التي تمتلك برنامجاً حقيقياً للمرحلة المقبلة، وبمعنى آخر هي ذاهبة لتنفي عنها طابعها العفوي وتنظم ذاتها في حركة سياسية جديدة، إلا أن هذا التغير لن يسير بطريقة سلسة وآلية، بل هو مرهون بدرجة كبيرة بتفاعلات الأزمة اليوم على المستوى الداخلي، وبما يستجد من أشكال في الصراع، وبالوضع الدولي الجديد، وتداعيات الأزمة الرأسمالية العالمية..»

تقدمت الحركة الشعبية بصعوبة، وورطها وعيها السياسي الذي يعيش طور التشكل وورطها أعداء سورية بالشعارات المتطرفة، الأمر الذي أعاقها وكلف بلدها سورية خسائر كبرى لأن «إسقاط النظام وإسقاط الحركة الشعبية وجهان لعملة أمريكية واحدة، يلعقها الفاسدون الكبار داخل جهاز الدولة من جهة، والفاسدون المأجورون للخارج من جهة أخرى» وهذا لم يلغ أن «تغييراً حقيقياً ووطنياً في سورية هو استحقاق لا مفر منه، ولا يمكن تحقيقه إلا برعاية الحركة الشعبية والسماح لها بأن تتطور تطوراً طبيعياً بناءً، وذلك بكف يد وإعلام فاسدي الدولة عنها من جهة، وبعزل المتطرفين المأجورين للخارج من داخلها من الجهة الأخرى..»

الحركة بمفهومها الواسع والانقسام الوهمي

رفضنا تسمية ما يجري ثورة، لأننا رأينا في ذلك إجهاضاً لثورة حقيقية قادمة، ثورة تتدرج عبر الانتقال من حركة شعبية جوهرها النشاط السياسي العالي والعفوي، إلى حركة سياسية ينتظم فيها هذا النشاط، ومنها إلى حركة ثورية حقيقية تؤدي الدور الجذري المطلوب، ورأينا لذلك «أن المطلوب من حرق المراحل وافتراض أن ما نعيشه هو ثورة هو الاستفادة من الاصطفافات المؤقتة القائمة حالياً، والتي لا تستند إلى أساس طبقي لتثبيت واقع سياسي يكرس الاستغلال ويغير الوجوه فقط.. وذلك قبل أن تتطور الحركة إلى ذلك الحد الذي لا رجعة عنه». اعتمدنا تسمية الحركة الشعبية باعتبارها تعبيراً واسعاً يكثف النشاط السياسي المتصاعد للجماهير بأشكاله المختلفة والمتنوعة والعابرة للانقسام الوهمي بين معارضة وموالاة، النشاط السياسي العالي الذي يعبر عن الضرورة الموضوعية للتغيير، ضرورة حل المشكلات المتراكمة على رؤوس السوريين عبر عقود، والتعامل مع الحركة الشعبية بصفتها هذه، هو مفتاح انتقالها إلى حركة سياسية ثم ثورية، ولكي لا تصل إلى حالتها الثورية كان من الضروري بالنسبة للقوى المعنية بحرق المراحل تعميم القمع وشرعنة السلاح بيد وحمله باليد الأخرى لقطع الطريق على إمكانية تطور الحركة الشعبية.

القمع والعمل المسلح

بدأت مرحلة التعويل على التدخل الخارجي المباشر بالانتهاء مع ظهور الفيتو الروسي- الصيني الأول، وبالمقابل بدأ السلاح بالتحول إلى ظاهرة معلنة بدأت تحت مسمى (حماية المظاهرات) ووصلت اليوم إلى مراحل شديدة التعقيد، وإذا كان من الثابت لدينا أن السلاح والتسلح بالطريقة التي حدث فيها وفي خصوصية الحالة السورية لم يكن طريقاً (ثورياً) في المحصلة، لكن ما حصل من تحول التسلح إلى أمر واقع فرض ضرورة التعاطي معه وتفسيره ليس بغرض تبريره كما فعلت (معارضة اسطنبول- الدوحة) وليس بغرض تجريمه وتبرير أوهام الحسم العسكري كما فعل النظام، ولكن تفسيره ظهر كضرورة باعتباره خطوة لا مفر منها في منع جر سورية نحو الاستمرار في اقتتال يستنزفها ويستنزف شبابها، وقادت الملاحظات الأولى إلى اختلاف أسباب التسلح واختلاف المسلحين، وقاد البحث التفصيلي والتواجد على الأرض إلى معرفة أصناف المسلحين بشكل أدق، والتأكد من أن جزءاً مهماً منهم يمكن إشراكه في الحوار، بل من الضروري إشراكه..

«عمد عرابو التسلح في إطار تنظيرهم لهذه الظاهرة إلى الإدعاء بأنها نشأت حمايةً للمدنيين وللمظاهرات السلمية، وامتثل الكثير من المسلحين العفويين لهذا المنطق وعملوا صادقين دون تلك الغاية، غير مدركين أنهم بذلك فقدوا ورقة الضغط الحقيقية، ورقة السلمية، وأنهم تحولوا إلى أدوات مجبرة على تنفيذ هذه الأجندة أو تلك، وبفضل هؤلاء اقتنعت أوساط واسعة من المعارضة الشعبية بهذه الحدود الوهمية بين المظاهرة (السلمية) وبين السلاح الذي (يحميها)..»

وإذا كانت هذه هي البداية فحسب فإن تعقد الأحداث والوظائف عقد التصنيف إلى:

• عفوي/ ثأري: حمل السلاح تحت ضغط القمع والدعاية الإعلامية

• جهادي/ تكفيري: من بينهم العائدون من الجهاد في دول مجاورة

• ميليشيات الفساد الكبير ما يسمى (شبيحة)

• لصوص ومجرمين..»

بقي التصنيف السابق أولياً وحاولنا تقصي تصنيف أكثر واقعية اعتمدنا فيه على مجموعة من الشروط هي الوظيفة والتكوين وأسباب حمل السلاح فوصلنا إلى أربعة أنواع سنذكر هنا بالنوع الذي يشمل قطاعاً كبيراً من المسلحين (مسلحو الأحياء): « جاء ظهور مسلحي الأحياء في المناطق شديدة التوتر مدّعماً بدعاية إعلامية مكثفة حول (حماية المظاهرات) من القمع الذي تعرضت له فعلاً، وبنتيجة تعبئة هؤلاء وشحنهم عبر مسلحين وافدين.  وحاملو السلاح المعنيون هنا هم من أبناء الحي المتوتر، منهم من تعرض هو أو أحد أفراد عائلته لقمع مباشر ويحمل نفساً ثأرياً وانتقامياً، وينتمون بأغلبيتهم العظمى إلى فئة المهمشين التي اتسعت كثيراً في سنوات اللبرلة وازدياد معدلات الفقر والبطالة التي أنتجها النظام السياسي والاقتصادي، وهؤلاء بمعظمهم غير متعلمين، ونتيجة غياب برنامج سياسي واضح إضافة إلى ضغط إعلام البترو- دولار وممارسات ميليشيات الفساد الكبير داخل جهاز الدولة تحول هؤلاء إلى أشخاص طائفيين بشكل طارئ رغم أنهم لم يكونوا ملتزمين دينياً قبل الأحداث، ومنهم، بحكم تهميشهم،من اضطر للعمل في ميادين اقتصاد الظل المتنوعة من البسطة وصولاً إلى الحشيش والمخدرات والجريمة..»

كان من الضرورة بمكان محاربة القوالب الجاهزة التي عمل على تقديمها النظام و(المعارضة) على حد سواء ليحشروا جميع المسلحين ضمنها، قوالب الملائكة والشياطين، القوالب التي تكرس الانقسام وتسمح باستمرار المعركة وباستمرار استنزاف سورية وبمنع الحل السياسي الذي سنأتي على ذكره لاحقاً..

المعارضة وتكويناتها

يقود الحديث عن الحركة الشعبية والعثرات الكبيرة التي واجهتها والانحرافات المختلفة التي تعرضت لها إلى مناقشة دور المعارضة السياسية ودرجة جديتها وآليات تصنيفها.. وكان لا بد، لحداثة عهدنا كسوريين في هذا الشأن، من وقوف متأن عند مفهوم المعارضة بغية توضيح جوهره بعيداً عن أشكاله النيابية المتعارف عليها في الغرب.. «إن الموقف المعارض يفترض الانطلاق من الاختلاف مع النظام الحاكم بواحدة أو أكثر من قضايا الثالوث السياسي: (الاقتصادي-الاجتماعي، الديمقراطي، الوطني)، ولما كانت القضية الاقتصادية الاجتماعية هي مركز هذه القضايا باعتبار السياسة تكثيفاً لمصالح الناس المتناقضة، فإن المعارض الذي يتفق مع النظام على طريقة توزيع الثروة، فإنه في نهاية المطاف لا يختلف معه إلا في قضية الكرسي»..

سمح استخدام هذه المعايير بتصنيف المعارضة بين وطنية وغير وطنية، خلافاً للتصنيف الجغرافي السطحي بين داخل وخارج، واصطدم هذا التصنيف بداية بأصحاب الحساسية من التخوين، لكنه تكرس رغم ذلك لأن الداعي إلى التدخل الخارجي والمرتبط مع الغرب البربري ليس بحاجة لمن يصفه بالخيانة، فهو يؤدي الدور بما يكفي.. ومن جهة أخرى سمح استخدام المعيار الاقتصادي الاجتماعي بالكشف المبكر عما أسميناه الخطة ب التي سنقف عندها بشيء من الإسهاب لأنها لما تسحب بعد ولكنها تعقدت فقط، الخطة التي تدل على توافق موضوعي كبير بين فاسدي النظام وبين مجلس اسطنبول- الدوحة.. 

سمح فهم التوازن الدولي الصفري مبكراً بالتنبؤ بمصير مجلس اسطنبول «إن مجلس اسطنبول مركب على مقولتي  (إسقاط النظام – تدخل عسكري)، وسوء خاتمته يسطرها سوء عمله، واعتماده على واقع الأحادية القطبية الذي تغير دون رجعة»

على التوازي فإن هيئة التنسيق حاولت أن ترضي الجميع فخسرتهم، رفضت التدخل الخارجي وهاجمت الفيتو الروسي، رفضت العمل المسلح وبررته واعتبرته ثورياً، خونت الاسطنبوليين وسعت جهدها للتقارب معهم تحت الشعار الممجوج وعديم الجدوى (وحدة المعارضة).. إلى ما هنالك من المواقف غير المبررة والتي لا يمكن فهمها إلا في إطار العقلية القومية التي تحكمها، عقلية (القائد يصنع الجماهير)، فقط أوصلونا للسلطة وستحل مشاكلكم جميعها..

في هذه المعمعة كنا في حزب الارادة الشعبية، ولا نزال، نقدم أنفسنا باعتبارنا مكوناً أساسياً في المعارضة الجذرية، ومعيارنا في ذلك أن الجذرية ترتكز إلى تغيير النظام كاملاً تغييراً بنيوياً عميقاً، يضرب توزيع الثروة القائم ويؤسس لعدالة اجتماعية حقيقية تساندها أوسع ديمقراطية حقيقية للمنتجين في وجه التجار، تغيير لا يقف عند تجميلات سطحية كالتي حدثت في مصر وتونس..

النظام والجهاز الدولة

أحد العوامل الهامة التي تعقد الطرح المعارض وتعقد فهمه هو «أن سورية لا تملك أكثرية وأقلية نيابية بالمعنى الحقيقي للكلمة، وتصبح المعارضة لذلك السبب حالة من خارج أطر جهاز الدولة ومن خارج الأطر التشريعية، وهذه الحال استمرت طوال العقود الماضية وطبعت المعارضة بطابعها. وأصبح أي اقتراب من جهاز الدولة هو بمثابة خيانة لقضية المعارضة، وهو أمر يحمل الشيء الكثير من الصحة لأنه إضافة للسبب الذي ذكرناه سابقاً فإن شعور الناس تجاه جهاز الدولة الرأسمالي –ودولتنا هي دولة رأسمالية- هو شعور بالبغض والخوف كونها تدافع عن الفاسدين ولا تحاسبهم في حين تنكل بالمناضلين السياسيين وتسومهم شتى أنواع العذاب والاعتقال..»

ويزداد الأمر تعقيداً حين «يصر النظام على المطابقة بينه وبين الدولة، فنراه يقول، بمناسبة وبغير مناسبة، استهداف للدولة، تهديد للدولة، محاولات إسقاط الدولة..الخ، وتخدمه في هذا التوظيف كلمة أخرى هي المؤامرة التي تحول الداخل إلى كتلة صماء تواجه الخارج، وتلغي بالتالي العوامل الداخلية أو تنحيها إلى مراتب متدنية، وتستكمل انصهار النظام بالدولة.. إن البناء على أن النظام هو الدولة، يعني أن من يريد إسقاط النظام يريد ضمناً إسقاط الدولة، وهو لذلك خائن ويجب تصفيته أو اعتقاله.. إن مقولة معي أو ضدي تصبح نتيجة حتمية بعد البناء على (الدولة = النظام)، وينتج ما هو واقع، الانقسام الحاد بين موالاة ومعارضة، انقسام ضد مصالح جميع السوريين وضد الدولة!»

ويزداد التعقيد أكثر حين يقبل الطرف المقابل بهذه المعادلة فيصبح جيش الدولة هو جيش النظام، ومؤسسات الدولة هي مؤسسات النظام، ومخابز الدولة هي مخابز النظام.. والخ، الأمر الذي يسمح بالنتيجة بتدمير الدولة بحجة تدمير النظام.. وهو أمر عمل عليه الإعلام الداخلي والخارجي على حد سواء بمعرفة ودون معرفة..

الإعلام والحرب البسيكوترونية

تابع الملف عبر العديد من مواده تأثيرات قنوات الإعلام الرسمي وشبه الرسمي السوري وقنوات الإعلام الخارجي وفي مقدمته البترو-دولاري باعتبارها راجمات صواريخ ترشق السوريين باستمرار بأخبارها وتختلق أحداثاً وتصنع أيضاً.. وإذا كان تطور الإعلام الخارجي قد حقق نقطة تقدم كبرى فإن كذبه المستمر كان من الممكن أن يخرجه من المعركة سريعاً لولا تخلف الإعلام السوري من جهة وعقلية الحسم الأمني العسكري التي سيطرت عليه من جهة أخرى.. « فأصبح الإعلام الخارجي هو الموجّه ومكوّن الوعي عند قسم هام من شريحة المهمشين بسبب حالة الفراغ السائدة، والخواء الثقافي والروحي وفي ظل عدم تكافؤ القوى بين المنابر الإعلامية الوطنية المستقيلة أو المقالة من أداء الدور المنوط بها، وبين إعلام البترو ـ دولار العربي، فأصبحت القنوات الفضائية العربية والناطقة بها هي الموجّه، ولسان حال قسم كبير من هذه الفئات التي تملأ الساحات بأصواتها الهادرة ضد الظلم والطغيان، ومع الدور الذي يلعبه تجار الأزمات وثوريو اللحظات الأخيرة ومثقفو المقاهي، والذين يقودون الثورة من خلف الكيبورد فقط، دون أن يكون لهم علاقة بالواقع وتنافضاته وتوازناته»

صاغ الإعلام المعادي أجندته بالطريقة التي تفاقم الأزمة وتمنع حلها ومن أمثلة ذلك «استخدام كلمة تنسيقية للتعبير عما عرف عبر تاريخ الحركة السياسية في سورية بالفرقة أو الخلية أو المجموعة القاعدية، كاسم للمكون الحزبي الذي يقع في قاعدة الهرم التنظيمي للحزب، ولكن اسم تنسيقية هو اسم الخلية أو الفرقة أو المجموعة القاعدية عند فصيل واحد دون غيره في الحركة السياسية السورية هو الإخوان المسلمون»

ومن الإشارات الشديدة السوء هي إشارة علم الانتداب، وحتى لو نحينا جانباً المغالطة والكذب التاريخي الكبير والعلني الذي حاول تبرير علم الانتداب وتسميته بعلم الاستقلال، فإن وجود علمين لم يتكرر في «ثورات الربيع العربي إلا في الحالة الليبية التي يراد لسورية أن تنحدر منحدرها، ولم يرفع علم ثان في مصر أو تونس أو اليمن أو البحرين أو الأردن..»

كذلك هو الأمر مع تسمية الجيش الحر التي قابلت الجيش السوري لننعم ببلد بجيشين يستحيل وجودهما في بلد واحد، والمراد أن يستحيل وجود البلد نفسه..

لم يقصر الإعلام الرسمي وشبه الرسمي برواياته الخلّبية عن التجمعات التي بالعشرات والتي تفرقت بسلام بعد أن شكرت الله على هطول المطر وصولاً إلى اعتبار المسلحين جملةً وتفصيلاً إرهابيين مرتزقة يجب سحقهم، وصولاً إلى معاقبة البيئة الحاضنة لهم عقوبات جماعية لأن «هذه الحرية التي يريدونها»، وتستر هذا الإعلام بالمقابل على جرائم ميليشيات الفساد الكبير المستمرة حتى اللحظة، وأمضى قسطاً من الأزمة مغمضاً عينيه يردد «خلصت» «سورية بخير»..

تضخيم الإسلام السياسي  

راج في الأزمة تداول مصطلح الإسلام السياسي وتمت معالجته من منظور ضيق يؤدي مهمة واحدة هي تضخيمه، «فلقوى الفساد في النظام مصلحة في ذلك كمبرر لأوهام الحسم العسكري التي تؤجل الحوار وتؤجل محاسبتهم، ولأعدائنا الأمريكان مصلحة أيضاً في تحويل الصراع الجاري إلى المنحى الطائفي التفتيتي».. ومع الوقت بدأ المشروع الأمريكي التفتيتي نفسه الذي تبنى تمويل الإسلام السياسي يستفيد من الطروحات السطحية «العلمانية» التي تدعي الخوف على «الأقليات» ليعزز الانقسام الوهمي الطائفي الذي اشتغل عليه طوال القرن الماضي..

«والإسلام السياسي في الجوهر هو الحامل السياسي المطلوب بديلاً عن البعث لاستكمال لبرلة سورية وإحراقها، وهو المعبر عن مصالح البرجوازية الجديدة الناشئة عن اتحاد بعض مفاصل الفساد المتوسطة والكبرى في جهاز الدولة مع البرجوازية المالية خارجه»

وفي تحليل أعمق لتطلعات فاسدي الطرفين ولتطلعات المعلم الأمريكي، تحدثنا عن خطة بديلة عملت عليها أمريكا وحلفاؤها مع انكسار شوكتها في مجلس الأمن، وقبل الحديث عن هذه الخطة التي نعتقد أنها لا تزال قائمة وتشكل خطراً لا بد من الوقوف عند مقدماتها..

الحل السياسي

انطلقنا في رؤيتنا للوضع السوري من الأزمة الرأسمالية العالمية، ولذلك لم نر الربيع عربياً، ولكنا رأيناه أممياً، ورأيناه بعين من يزرع البذر وينتظر الثمر ولا تغره زهور لن تنعقد في السنوات الأولى.. الدراسة المعمقة للأزمة الرأسمالية التي استشرفها حزب الإرادة الشعبية منذ كان «اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين» قبل عشرة أعوام، كانت أساس الرؤية السياسية الراهنة.. الرأسمالية غربية وشرقية تتراجع والشعوب ستتقدم والجماهير ستعود إلى الشارع، بعودتها سيشيع الفضاء السياسي القديم إلى مثواه الأخير وسيولد الفضاء السياسي الجديد..

وضمن رؤية الأزمة وتكثيفها في تراجع رأسها القطب الأمريكي، كان لا بد من الإجابة باكراً عن سؤال: « لماذا لا تكون روسيا ذاهبة فعلاً -كما يتمنى البعض- إلى تغيير مواقفها من الأزمة في سورية باتجاه التساوق مع أمريكا وأوروبا؟» لأن الإجابة الدقيقة على هذا السؤال هي التي سمحت لنا منذ الفيتو الروسي- الصيني الأول بالحديث عن التوازن الصفري الذي سيفرض حلاً سياسياً في سورية على غير ما جرت الأمور في ليبيا..

«لاشك أن روسيا والصين وأمريكا وأوروبا جميعها في الخندق ذاته من حيث هي أقطاب رأسمالية كبرى، وخصوصاً في ظل العولمة التي توحد مصيبتهم وتضع أرجلهم في «الفلقة» معاً، وتحديداً إذا قرأنا الديون الروسية والصينية على أمريكا وطبيعة علاقاتهم الاقتصادية إذاً لزادت معادلة الخندق الواحد وضوحاً وجلاءً، ولكن فرقاً أساسياً يجعلهم في خندق واحد وعلى تضاد في الوقت ذاته، وهو كون أمريكا وأوروبا يلعبان اليوم دور إمبرياليتين في مقابل رأسماليتين صاعدتين روسية وصينية، ويتضح ذلك من خلال إصرار أمريكا على نهبها للعالم بدولارها المتضخم محمولاً على اقتصاد ضعيف تسنده آلة عسكرية شديدة الضخامة، وبهذا المعنى فإن ذهاب أمريكا نحو الانهيار الصاعق سيحمل المنظومة بأكملها إلى الهاوية، فهم لذلك في خندق واحد. وبالمقابل فإن الاقتصاديات الصينية والروسية تريد الاستمرار دون هذا الانهيار، لذا فإنها تريد للدولار تراجعاً منتظماً وهادئاً قدر الإمكان، لأن مواجهة عنيفة معه ستقود إلى انهيار صاعق، وكذلك فإن تركه ليبتلع مناطق الثروات الأساسية سيجمد الاقتصاديات الروسية والصينية ويتركها نهباً للدولار.

ضمن ظروف من هذا النوع، فإن عدو الخندق الواحد أضعف مما كان بكثير، ولذا يجب تصفيته بأقل الخسائر الممكنة وبأقل الآثار على ثبات وصمود الخندق، وعليه فإن من المستبعد تغيير الموقف الروسي- الصيني ليس في الأيام القريبة القادمة، وإنما أيضاً في المدى المتوسط الذي سيحمل تغيرات كبرى في منظومة القوى العالمية وتوازناتها»

إن هذا الفهم مضافاً إليه فهم التوازن الداخلي المستعصي جعلنا واثقين تماماً بأن الحل السياسي مسألة وقت ليس إلا، وأصبحت المهمة الأساسية هي تسريع الوصول إليه لتخفيف الخسائر التي كلما زادت هددت بمناخ أفضل لتطبيق الخطة ب..

 الخطة «ب»

«ينطلق السيناريو الأمريكي البديل من كون الفاسدين الكبار داخل النظام السوري يتفقون مع مجلس اسطنبول على لبرلة الاقتصاد السوري، أي أنهم متفقون على توزيع محدد للثروة هو القائم حالياً: (75 % لأصحاب الأرباح، 25 % لأصحاب الأجور). سنأخذ هذه الحقيقة ونضيف إليها أن النظام السياسي يعني أول ما يعني نمط توزيع الثروة. هنا يصبح من الواضح أن من مصلحة الطرفين المتشددين – بعد أن فقد كلاهما الأمل في هزيمة الآخر- إبقاء النظام مع إعادة التحاصص على الأرباح، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه بوجود حركة شعبية تتقدم يوماً بعد آخر ليس بوصفها مظاهرات وفقط، وإنما بوصفها العلمي كنشاط سياسي متصاعد للجماهير، تتقدم وتكسر الحلقة الأولى (موال- معارض) وتمّحي الغشاوة عن عينيها شيئاً فشيئاً لترى أمامها عدواً واحداً يتوضح أكثر فأكثر، عدواً برؤوس عدة: (فاسدين كبار داخل النظام، فاسدين داخل المعارضة على شكل مجلس اسطنبول، معارضة «لا+نعم = لعم» للتدخل الخارجي، تكفيريين ومتطرفين داخل المجتمع).

ينبغي لتحييد الحركة الشعبية إضافةً إلى محاولات قمعها وتسليحها – المحاولات التي لم تنفع في إجهاضها- ينبغي إيهامها بالتغيير، وإلا فإنها ستواصل صعودها حتى تطرد الجهتين المتطرفتين من ساحة الوطن وتعيد توزيع الثروة جذرياً، ولن تكتفي بذلك وإنما ستعزز الوحدة الوطنية وتتجذر في الموقف الممانع وتطوره نحو المقاوم، الأمر الذي يتناقض كلياً مع مشروع أمريكا التفتيتي في المنطقة ويتناقض مع مصلحة فاسدي الطرفين.»

ولذلك كانت الخطة ب: «يتحالف الفاسدون الكبار داخل النظام مع المعارضة غير الوطنية تحت سقف الحوار، ويذهبون معاً إلى قلب الطاولة وإحداث ثورة مضادة من فوق، يبعدون فيها «ديمقراطياً» القيادة السياسية العليا الحالية فقط ويقدمون للناس إيهاماً بحدوث تغيير ديمقراطي يجهض مشروع سورية جديدة»

لم تنته صلاحية هذه الخطة بعد، لكنها ستأخذ مخططها التفصيلي اليوم في إطار المرحلة الانتقالية، فهي ستسعى لتشكيل توليفة ما من معارضة الدوحة وهيئة التنسيق، وستفعل اختراقاتها داخل النظام، الاختراقات التي خسرت جزءاً منها في جزء من عمليات «الانشقاق» التي جرت في مرحلة وهم الحسم، وستعمل من خلال تحالف الفاسدين غير المعلن على طاولة الحوار على تمرير شكل خاص من «الديمقراطية التوافقية» بصيغتها اللبنانية، وستحاول إجهاض الحياة السياسية استباقياً على مبدأ تسمية الثورة ثورة قبل أن تصبح كذلك بإحداث شكل من نظام الحكم غير متناسب مع درجة تطور قوى الإنتاج السورية..

للخطة «ب» بشكلها الجديد تفاصيل أكثر تعقيداً من شكلها الأولي، لأن المعركة الحقيقية ستبدأ مع بدء الحوار وستشتد مع كل خطوة إلى الأمام، ونحن –أسرة الملف- نعد متابعي «قاسيون» بالوقوف في الأعداد القليلة القادمة على بنود المرحلة الانتقالية والحل السياسي بالتفصيل حيث تختبئ الشياطين.. وحيث نلاحقها..