هي آخر الحروب.. ربما! فرضيات حول الحرب والفاشية والرأسمالية..

هي آخر الحروب.. ربما! فرضيات حول الحرب والفاشية والرأسمالية..

بماذا تختلف الحرب التي تعيشها البشرية الآن عن الحربين العالميتين الأولى والثانية؟ وبماذا تختلف فاشية اليوم عن فاشية القرن العشرين؟ وأي الآفاق تنتظر المجتمع البشري..؟

تقدم هذه المادة مقاربة أولية، واقتراحات أولية، لأسئلة تحتاج، وتستحق، أبحاثاً جدّية مطوّلة..


أولاً: أسباب الحروب

إذا كان من الثابت تاريخياً أنّ الحرب في نشأتها الأولى كانت نتاجاً لانتقال المجتمع البشري من نظام المشاعة البدائية إلى نظام الرّق، وعاملاً مسرّعاً لهذا الانتقال في الوقت نفسه، فإنّ تطور المجتمع الطبقي، تضمّن تطوراً للحرب نفسها، من حدث مصادف، عرضي، إلى ضرورة تتعمق وتتعدد وظائفها أكثر فأكثر، وصولاً إلى الرأسمالية التي تحولت فيها الحرب إلى «رئة حديدية تتنفس منها الرأسمالية».
إنّ ضرورة الحرب ضمن المجتمع الطبقي تنبع أساساً من التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، فلمّا كانت القوى المنتجة متطورة أبداً، فإنها بتطورها هذا تضغط باستمرار على علاقات الإنتاج (التي تشمل علاقات الملكية والتوزيع). وعليه فإنّ المستفيدين من تلك العلاقات (أصحاب الملكية وحائزو القسم الأكبر ضمن التوزيع)، المستغلون عبر العصور، يقومون بإشعال الحروب التي من شأنها إما توسيع مجال تطور القوى المنتجة جغرافياً واقتصادياً عبر التوسع أو/و ضرب تلك القوى مباشرة في حال عدم وجود إمكانية للتوسع. ولكّن هذه العملية نفسها، عملية ضرب القوى المنتجة، كانت دائماً أحد خيارين ضمن المجتمع الطبقي بنسختيه العبودية والإقطاعية، لأن الخيار الآخر الذي كان حاضراً هو الارتقاء بعلاقات الإنتاج نحو علاقات جديدة، طبقية أيضاً، وهو الأمر الذي لم يعد ممكناً منذ دخلت البشرية عصر الرأسمالية، إذ إنّ التطوير اللاحق لن يكون طبقياً، ما جعل الحرب أكثر ضرورية وأساسية، لا للحفاظ على علاقات الإنتاج الرأسمالية في وجه تطور القوى المنتجة فحسب، بل وللحفاظ على المجتمع الطبقي ككل. بكلام آخر، فإنّ الرأسمالية إذ توصف بأنها مرحلة سيادة الإنتاج البضاعي بالمعنى الاقتصادي، فإنها تستحق أن توصف أيضاً بأنها مرحلة سيادة الحروب بالمعنى السياسي.


ثانياً: أطوار الحرب ضمن الرأسمالية

يمكن الحديث في تفاصيل الحرب كضرورة ضمن الرأسمالية انطلاقاً من تطور الأزمة البنيوية للرأسمالية التي تظهر إلى السطح أزمة دورية –أزمة فيض إنتاج، وتتطور تباعاً.
انطلاقاً من ذلك، يمكن تتبع ثلاثة أطوار أساسية لتطور الحرب ضمن الرأسمالية:
الطور الأول (توسع+ تقاسم): هو الطور المرافق لمرحلة المزاحمة الحرة. في تلك المرحلة (وإلى جانب إتلاف الفائض الذي كان شكلاً متخلفاً في العلاج)، كانت الحرب تقدم حلاً لأزمات فيض الإنتاج عبر توسيع رقعة الرأسمالية نفسها جغرافياً، وذلك بالتوازي مع عملية اقتسام أوليةٍ للنفوذ والمستعمرات بين الدول الأكثر تقدماً (فرنسا وبريطانيا في حينه). امتاز هذا الطور بأنّ الحرب فيه لم تكن دائمة الظهور، فهي تماماً كما وصفها ماركس في حينه “الرئة الحديدية” تتنفس منها الرأسمالية بين أزماتها الدورية، فمع كل انكماش يجري التحضير للحرب التي تجلب معها الانتعاش عبر التوسع من جهة وضرب القوى المنتجة من جهة أخرى، لترتاح البشرية بعد ذلك مؤقتاً من الحرب، ومن ثم لتدخل فيها من جديد، ضمن شهيق وزفير مَرضيّ مستمر. تمتاز هذه المرحلة أيضاً بأنّ عملية ضرب القوى المنتجة عبر الحروب لم تكن غاية أساسية، وإنما كانت شأناً عرضياً إلى حد بعيد، والسبب في ذلك أنّ هامش تطور القوى المنتجة، ليس على مستوى بلدان المركز، بل على المستوى العالمي، كان لا يزال واسعاً.
الطور الثاني (توسع + إعادة تقاسم): يبدأ مع الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومع الدخول في الطور الإمبريالي من الرأسمالية حيث تناقصت المساحات المتاحة للتوسع، فكانت الحرب العالمية الأولى توسعاً من جانب وإعادة لاقتسام النفوذ العالمي بين الكبار من جانب آخر. مع الحرب العالمية الثانية، تناقص هامش التوسع أكثر، وازداد هامش إعادة التقاسم، ما جعل موضوعة التوسع الأفقي نسبية أكثر من أي وقت مضى، أي توسع على حساب آخرين ضمن مساحة شبه مغلقة بحدودها المطلقة.
ما يميز الطور الثاني، هو تصاعد عملية ضرب القوى المنتجة عبر الحرب، واقتراب تحولها من مصادفة إلى ضرورة كلّما اقترب التوسع الأفقي من نهايته. بروز الفاشية بين الحربين، وتوليها زمام التدمير خلال الحرب الثانية، نقطة انعطاف أساسية في تحول وظيفة الحرب ككل، وفي تحول وصول علاقات الإنتاج إلى بدايات تناقضها التناحري مع القوى المنتجة، آلات وتكنولوجيا وبشر.
الطور الثالث (إعادة تقاسم+ تدمير): وهو الطور الذي نعيشه منذ عقدين من الزمن تقريباً. مميزه الأساسي هو انتهاء التوسع الأفقي الجغرافي نهائياً، وترسمل الأرض حتى آخر بقعة منها، الأمر الذي جعل من وظيفة التوسع الأفقي نافلة لا مكان لها. وحتى موضوعة إعادة التقاسم تقلّص شأنها نتيجة الدرجة الشديدة من تمركز الثروة والسلطة على مستوى العالم، وبالنتيجة فإنّ وظيفة الحرب اليوم هي أكثر من أي وقت مضى، وأكثر من أي شيء آخر، تدمير القوى المنتجة.
بالمحصلة، فإنّ ما بدأ عرضياً قبل قرنين من الزمن، تطور شيئاً فشيئاً ليتحول إلى الضرورة الأساسية. فإذا كانت وظيفة الحرب هي التوسع، ومن ثم التوسع وإعادة الاقتسام، فإنّ وظيفتها الآن هي تدمير القوى المنتجة.
ولعل نادي روما 1975، نادي الحكام العالميين، قال بهذه النتيجة قبل أن تخطر على بال كثيرين، وذلك حين خرج بالنيومالتوسية، أو نظرية المليار الذهبي، والتي تتلخص بالآتي: ((للحفاظ على توزيع ثروة عالمي يضمن لـ20% من البشر (الرأسماليين) استمرار حيازتهم لـ80% من الثروة، ينبغي الحفاظ على تعداد السكان العالمي بحدود 3 مليار، وبما أنّ التعداد قد يصل إلى 8 مليار عام 2020، فإنّ جملة من الوسائل ينبغي استخدامها لمنع هذه الزيادة)). بكلام آخر: ينبغي قتل 5 مليار إنسان خلال 45 عاماً، وبين أهم أدوات القتل: ((الحروب البينية، اشتراط المساعدات بتحديد النسل، تطبيق الوصفات الليبرالية الجديدة التي تخفض مستوى المعيشة وتخفض بالتالي وسطي العمر المطلق للسكان، نشر الأوبئة والأمراض، تكثيف تجارة المخدرات والأدوية الكيميائية والتبغ..إلخ)). وبالنتيجة فالمطلوب تدمير القوى المنتجة، وجانبها البشري بشكل أساسي، ذلك أنّ درجة ضغط هذا الجانب على علاقات الإنتاج (لم يعد محتملاً).
بما يعني أنّ الحرب تحولت مع تعفن الرأسمالية من عملية متقطعة بين شهيق وزفير إلى عملية دائمة، تحولت إلى شكل وجود الرأسمالية، تحولت إلى الشكل الوحيد المتبقي لوجود الرأسمالية. وانطلاقاً من ذلك التحول وحتى الآن وإلى المستقبل، فإنّ بقاء الرأسمالية يعني حرباً مستمرة بلا انقطاع. ولعل هنتغنتون، معلّم فوكوياما، قد مهّد الطريق أيديولوجياً لهذا الانتقال، بنظريته حول «صراع الحضارات» بوصفه «أمراً طبيعياً، أزلياً وأبدياً»..

ثالثاً: التطور الاقتصادي  الموازي للحرب

يعزز الافتراض السابق حول المراحل الثلاث، ملاحقة تطور الأزمات الرأسمالية عبر قرنين، إذ مرّت هذه الأزمات شكلياً بمراحل ثلاث: الأولى مرحلة الأزمة الدورية التقليدية، والثانية مرحلة تحويل الأزمة من فائض بضائع تقليدي إلى فائض مالٍ وسلاح مع الحرب العالمية الثانية ومع سيادة الاحتكار وتداعي المنافسة، والثالثة انفجار هذا الفائض ابتداء من السبعينيات بالتحول نهائياً نحو «النيوليبرالية» التي جاءت إعلاناً عن «وفاة» الحلول الكينزية للتضخم على حدة وللركود على حدة حينما ساد التضخم الركودي، الذي يعني انخفاض عمر الأزمة الدورية إلى صفر، بمعنى تحولها إلى أزمة دائمة.


رابعاً: التطور الاقتصادي- الاجتماعي الموازي:

ترافقت الأزمات الرأسمالية دائماً مع أزمات اجتماعية عميقة، شكلها الأولي هو إنتاج البطالة، وهنا ينبغي التمييز بين ثلاثة أنواع من البطالة: الأول هو ما يسمى «البطالة الضرورية» وهو نسبة بطالة محددة، منخفضة نسبياً، وظيفتها زيادة عرض القوة العاملة لتخفيض سعرها- أجرها وزيادة الربح. الثاني هو بطالة طارئة تنتجها الأزمات الدورية، ثم تعيد استيعابها ضمن عملية العمل في مراحل الانتعاش. الثالث، الذي ترافق تاريخياً مع مرحلة صعود الفاشية سياسياً، ومع بدايات تحول الأزمة الدورية إلى أزمة دائمة، ومع بدايات تحول فائض الإنتاج إلى فائض مالٍ وسلاح، هو البطالة المستديمة- المهمشون، وهؤلاء هم بالتحديد من شكلوا القاعدة الجماهيرية لفاشية القرن العشرين التي تقنعت أيديولوجياً بالشوفينية القومية وبالطروحات اليسارية الشعبوية في آن معاً، في حين مثّلت مصالح «الفئات الأكثر رجعية لرأس المال المالي العالمي».
النوع الثالث هذا- المهمشون، أنتج بين الحربين العالميتين، وكان وقوداً أساسياً للحرب الثانية، ولكن عملية إنتاجه الواسع انتقلت بعد ذلك إلى بلدان العالم الثالث، ولم تعد عملية طارئة بل عملية منتظمة متصاعدة، وبخاصة في العقود الثلاثة الأخيرة.
فإذا كان وجود المهمشين المؤقت قاعدة لفاشية مؤقتة ولحرب مؤقتة في النصف الأول من القرن العشرين، فإنّ وجودهم الواسع والمستمر في النصف الثاني من القرن وحتى الآن يعني فاشية جديدة مستمرة وحرباً مستمرة.


خامساً: التطور الاستعماري الموازي

يمكن في السياق التاريخي نفسه الحديث عن ثلاثة أطوار للاستعمار: الأول هو الاستعمار التقليدي المباشر والذي ترجم مرحلة (سيادة التوسع الأفقي). والثاني هو الاستعمار الحديث- الاقتصادي الذي اكتمل تكونه في الستينيات (التبادل اللامتكافئ- مقص الأسعار- هجرة العقول- التبعية التكنولوجية)، ليعمق عملية التوسع الأفقي، ويمضي خطوات كبيرة في عملية التوسع العمودي (ضرب القوى المنتجة)، وصولاً إلى مطالع الألفية الثالثة حيث انتهت كل أشكال التوسع، وبدأ طور ثالث من الاستعمار هو الاستعمار ما بعد الحديث الذي يظهر بوصفه نفي نفي للاستعمار القديم، مركباً الاستعمار المباشر مع الاستعمار الحديث، ومستنداً إلى وظيفة تدميرية أساسية شعارها المخفي هو النيومالتوسية.
وإذا كانت بدايات الانتقال من الاستعمار القديم إلى الاستعمار الحديث، قد عبّرت في حينه عن تغييرٍ للأدوات تحت ضغط وجود السلاح النووي الذي عطّل الأدوات القديمة- التقليدية، مع بقاء وظائف التوسع وإعادة التقاسم، فإنّ تعفّن الرأسمالية المتصاعد، وحاجتها المتزايدة لتدمير القوى المنتجة، هي بالذات من طورت وظيفة الاستعمار الجديد التدميرية، وصولاً إلى نفي النفي التركيبي، الذي عاد إلى الشكل القديم للحرب مع تطويرات هامة صراطها الأساسي (صراع الحضارات)، أي الحروب البينية، الطائفية والقومية والإثنية..وإلخ.

خلاصة أولية:

إنجلز: «في ظل الرأسمالية فإنّ كل خطوة إلى الأمام في تطور القوى المنتجة، هي خطوة إلى الوراء بالنسبة للإنسان والطبيعة) وأيضاً: (مع نهاية الرأسمالية تقف البشرية أمام مفترق طرق فإما المضي نحو الاشتراكية أو البربرية)
بجمع أطراف الحديث يمكن الوصول إلى الاستنتاجات الأولّية التالية:
الشكل الوحيد المتبقي لوجود الرأسمالية هو الحرب.
وظيفة هذه الحرب هي التدمير المستمر للقوى المنتجة لتبقى متناسبة مع علاقات الإنتاج الرأسمالية التي استنفدت إمكانيات تطورها التاريخي.
الشكل السياسي لهذه الحرب هو «صراع الحضارات» الذي لا ينبغي أن يعبر عن نفسه كحرب بين دول بل كحروب عديدة مبعثرة ومستمرة بين طوائف وقوميات.
مدير هذه الحروب هو رأس المال المالي العالمي الإجرامي، المنتج والمتحكم الأساسي بظاهرة الفاشية الجديدة.
الإرهاب ليس إلا الشكل المناسب تاريخياً لتجلي الفاشية الجديدة بصفتها المعولمة العابرة للقوميات والقارات.
جمهور الفاشية الأساسي هم المهمشون.
القضاء على الفاشية الجديدة يعني القضاء على الحرب، ويعني تالياً القضاء على آخر شكل من أشكال وجود الرأسمالية، ويعني كنتيجة القضاء على الرأسمالية نفسها!
استمرار تطور القوى المنتجة وما يتضمنه من تطور فكري وثقافي وروحي وعلمي للبشرية ككل، مرهون بإنهاء الرأسمالية..
بما أنّ الحديث عن مركز إمبريالي بديل أمر مستحيل في ظل درجة التمركز التي تمنع ليس الاستهلاك فقط، بل وتمنع الإنتاج وإعادة الإنتاج ناهيك عن توسيعه، وبما أنّ العودة بالتاريخ إلى الوراء، أي العودة عن درجة التمركز القائمة ضمن التشكيلة الرأسمالية أمر مستحيل، فإنّ محاربي الإرهاب ومحاربي الفاشية الجديدة الجدّيين، وأياً كانت نواياهم ومقاصدهم، وحتى وإن كانوا رأسماليين ولهم أحلامهم الرأسمالية الخاصة، فهم يحاربون، وعوا ذلك أم لم يعوه، آخر أشكال وجود الرأسمالية!
مع تطور الرأسمالية فإنّ البشرية تقف أمام مفترق طرق فإما الاشتراكية وإما الفناء.
إذا كان فوكوياما قد أنهى التاريخ ووقفه على «الديمقراطية الليبرالية» الرأسمالية، وإذا كان معلمّه هنتغتون قد صاغ هذه النهاية حرباً مستمرة بين الحضارات، فإنّ ماركس كان قد وصف قبلهما بكثير كل ما عاشته البشرية وما ستعيشه ضمن الرأسمالية بأنّه ليس إلّا «ما قبل التاريخ» الحقيقي للبشرية وللإنسان.. فلّما شكّل التطور البيولوجي الاجتماعي الانفصال الأول للإنسان عن الطبيعة، ولمّا شكّل تطور المجتمع الطبقي تعميقاً لهذا الانفصال من باب التناقض والعداء مع هذه الطبيعة، فإنّ نفياً للنفي يلوح في الأفق.. عودة مظفرة وأرقى لهذه الطبيعة نفسها، تكسر اغتراب الإنسان نهائياً وتدخله التاريخ الحقيقي. التاريخ الذي «لم ينته ونحن محكومون بالأمل» كما قال سعد الله ونوس، بل وأكثر من ذلك: التاريخ الذي لم ينته لأنّه لم يبدأ بعد!

آخر تعديل على الأحد, 22 تشرين2/نوفمبر 2015 12:57