شعوب الشرق بين تقرير المصير... ووحدة المصير؟

شعوب الشرق بين تقرير المصير... ووحدة المصير؟

بات الفضاء الجغرافي السياسي الممتد، من قزوين إلى شمال افريقيا، في ظل الفوضى السائدة، ساحة مفتوحة على احتمالات شتى، حيث باتت أغلب الكيانات والدول والشعوب ومختلف البنى أمام تحديات تاريخية ذات طابع وجودي.

بمعنى آخر نحن أمام مشكله عابرة للحدود السياسية القائمة، أي مشكلة عامة، وإن كانت تتجلى في كل دولة حسب واقعها الملموس. عمومية المشكلة وتكرارها في مختلف الدول، تقود المتابع إلى الاستنتاج بأن لهذه الظاهرة قانونيتها، وهذا ما يفترض تحديد العوامل المشتركة، بين مختلف الدول في هذا الفضاء.

نموذج النظام السائد

أولاً: تشترك جميع هذه الدول، بأن النظام الاقتصادي الاجتماعي القائم فيها هو نظام رأسمالي، وهذا ما يعني بالضرورة أن هذه الدول تحمل كل التناقضات التقليدية للرأسمالية.

ثانياً: إن الرأسمالية في بلدان العالم الثالث، في ظل التقسيم الدولي الراهن للعمل،  هي موضوعياً رأسمالية تابعة، وهذا يعني بالضرورة أن هذه البلدان «تتطور» تحت مطرقة النهب الكولونيالي، مع ما يعنيه ذلك من تعرض شعوب هذه البلدان لنهب مزدوج، عالمي لصالح المراكز من جهة، ومحلي لصالح الكومبرادور (البرجوزاية المحلية) من جهة أخرى، وهذا ما أدى بدوره، إلى تبلور ما يمكن أن نسميه متلازمة «النهب – القمع» كإحدى خصائص التطور التاريخي لهذه البلدان، فالنهب الفاحش والمزدوج الذي تتعرض له شعوب هذه البلدان، تتطلب على الدوام أن يتوازى مع القمع الحامي له، والذي شكل التمييز القومي جزءاً منه، حتى تستمر عملية تغذية جيوب قوى رأس المال المحلي من جهة، و المزيد من تراكم الثروة في المراكز من جهة أخرى.

تعدد عرقي وديني

ثالثاً: إن جميع هذه البلدان تتسم ديموغرافياً، بالتعدد الثقافي «العرقي، الديني، الطائفي ...» الذي يعبر عن الغنى الحضاري من جهة، وإمكانية الاشتغال عليها من جهة أخرى لعرقلة التطور التاريخي الموضوعي، ولكن الرأسمالية الطرفية البدائية المتخلفة بخصائصها المعروفة، وبالدرجة الأولى «متلازمة النهب- القمع» لم تأخذ مسار الاستناد على الغنى الحضاري، لدفع التطور التاريخي الاقتصادي – الاجتماعي، السياسي إلى الأمام، بل ذهبت عكس ذلك تماماً، وخصوصاً بعد ركوب مدحلة اللبرلة الاقتصادية في العقود الأخيرة، فدمّرت الكثير من المشتركات الموضوعية، بين المكونات العرقية والدينية والطائفية.

 مع تفجر الأزمة الرأسمالية في المراكز، ووضع المشاريع الدولية الخاصة بهذا الفضاء، بهدف تأريض أزمتها، انفجرت دفعة واحدة كل التناقضات في هذا الفضاء الجغرافي السياسي، وبالتوازي مع ذلك أصبحت وسائل الإعلام ساحة عبث بالوعي الجمعي، وخرج علينا من خرج من الدهاقنة، ومن والاهم من المنافقين والمراءين من متعصبي المكونات القومية والطائفية من كل شاكلة ولون، وانتهاء بالسفلة والجهلة، وشهود الزور، ليتحدثوا في كل شيء إلا جوهر الظاهرة – المأساة- القائمة في هذه الرقعة الجغرافية، وليتهموا كائناً من كان إلا القاتل الحقيقي، وتحديداً الرأسمالية الممسوخة، بكل ما أنتجته من انحطاط سياسي وأخلاقي، لتبدو المشكلة مجرد قوميات وطوائف متصارعة، لكل واحدة منها مشكلة مع الآخر القومي أو الطائفي، وبالتالي فما على كل مكوّن إلا البحث عن الحل الخاص به، في الوقت الذي كان جذر المشكلة واحد، وأسباب المشكلة واحدة، لينتهي الأمر لديهم بأن أفضل حل هو التقسيم، و الأمر الذي يستوجب التسابق إلى نيل رضى «الحاكم بأمره» أي المركز الرأسمالي، في الوقت الذي كانوا قد ملأوا الدنيا صراخاً وزعيقاً، في الحديث عن القرية الكونية، ووحدة العالم سابقاً، لفرض مفاهيم العولمة، ليجعل منهم ذلك المركز في المحصلة كركوزات ودمى على مسرح المصالح.

البحث عن المخارج 

من الطبيعي في ظل المأزق التاريخي الراهن، أن يكون البحث عن المخارج على رأس جدول الأعمال، ومن الطبيعي أيضاً ان تتعدد المشاريع المطروحة، ولكن ما هو غير طبيعي بحال من الأحوال أن يتم تبني أكثر تلك الحلول قابلية لإعادة إنتاج الأزمة، واستنبات أزمات جديدة، أي محاولات التقسيم .

القضية الكردية نموذجاً.

بقيت القضية الكردية على مدى قرن من الزمن في حالة مد وجذر، ضمن البنية الرأسمالية السائدة داخل كل بلد، وبعبارة أوضح ضمن المنطق البرجوازي، في مستواه «العالم ثالثي»، الذي لم يحل أيه قضية حلاً حقيقياً في البلدان الاربعة، ولم تتجاوز سياساتها -إلا نادراً- منطق إدارة الازمات وليس حلها.

في ظرف الانعطاف التاريخي الراهن شهدت هذه القضية اهتماماً متعاظماً، وطال الاستقطاب الحاصل في المواقف السياسية حول جميع القضايا، هذه القضية أيضاً، حيث يمكن تلمس أربعة مواقف حول هذه القضية، بغض النظر عن البروباغندا المرافقة لتطور الأوضاع:

استمرار عقلية إنكار وجود قضية كردية بأساليب ملتوية من مختلف أنظمة الدول التي يتواجد فيها الأكراد، و بعض النخب السياسية والثقافية بما فيها المحسوبة على المعارضة أحياناً، وفي أحسن الأحوال محاولة استخدامها كورقة ضغط، في ظل الاستقطابات الإقليمية، وذلك تحت ستار الحفاظ على وحدة البلدان ومنع التفتيت، مع العلم أن سياساتها وضعت الأسس والمقدمات لأي تفتيت محتمل. 

الهروب إلى الأمام، من طرف بعض النخب الكردية العراقية، باتجاه الاستقلال، بأي ثمن كان، تحت راية الحق القومي المشروع، بغض النظر عن إمكانية تحقيق مثل هذا المشروع، من عدمه، وبغض النظر عن ما يمكن أن يحدثه مثل هذا الإجراء من طرف واحد في ظل المأزق التاريخي، ودون أن يأخذ بعين الاعتبار التبدلات السريعة المحتملة في مواقف القوى الداعمة لمثل هذا الإجراء، والتي كانت على الدوام تحاول احتواء جميع القوى من نخب كل المكونات، لتتحكم هي بقواعد اللعبة.

الموقف الامريكي الذي يشتغل عملياً على كلا الموقفين السابقين، تارة يغذي هذا ومرة ذاك، ليستقر في النهاية حيث تتطلب مصالحهم.     

موقف آخر يجمع بين حق تقرير المصير من حيث المبدأ، ويرى تجسيده الملموس في إطار الاندماج الطوعي، كمخرج واقعي، باعتباره حلاً يلجم خطرين يهددان الحقوق القومية الكردية:

خطر إنكار الحق على أهله.

خطر توظيف هذا الحق لصالح أجندات دولية. 

 خرافة الحل الخاص 

أعتقد جازماً أن محاولة الوصول إلى أي حل يخص مكوناً قومياً أو دينياً لوحده، في بلدان المنطقه، ومنها القضية الكردية، هو قبض للريح، وهو أقرب إلى التنجيم منه إلى الفكر السياسي، أو على الأقل هو عدم إدراك لحقائق هذه المرحلة التاريخية، بأبعادها الدولية والإقليمية، وجهل حتى بخصائص القضية الكردية نفسها..

إن حق تقرير المصير بمعنى الانفصال لأكراد العراق حصراً، يضع الكرد وبشكل مباشر تحت ضغط وابتزاز قوى إقليمية ودولية، وفي أحسن الأحوال يجعل القضية الكردية ساحة لتصفية حسابات هذه القوى، في ظرف تتبدل فيه المحاور والتحالفات بشكل أكثر مما يتوقعه العقل القومي التقليدي.

إن أفضل صيغة لحق تقرير المصير للشعب الكردي في المرحلة الانتقالية الراهنة، تكمن في أن يكون الشعب الكردي في قلب المعركة إلى جانب الشعوب الأخرى، من أجل عملية تغيير جذرية لكامل البنية السابقة، وما أنتجته من قهر اجتماعي وقومي،  باتجاه شكل من اشكال الاتحاد القائمة على الاعتراف المتبادل بالحقوق، وليس جعلها أداة توتير جديدة، من خلال أوهام الدعم الغربي عموماً، والأمريكي خصوصاً، تلك الأوهام التي تتورم يوماً بعد يوم، وصولاً إلى توتير البيت الكردي نفسه، فأي تقسيم وفق منطق مشروع الفوضى الخلاقة اليوم، تحت راية الحق الكردي، سيليه مباشرة توتير كردي – كردي، بدأنا نجد بعض ملامحه، مع تصاعد الحديث عن الحقوق الكردية، ناهيك عن أن الغرب الذي قادته مصالحه إلى عدم الوقوف عند كل صرخات حليفه التقليدي«السعودية»، واضطر إلى توقيع الاتفاق النووي مع ايران يؤكد أن مصالح حلفائه لاتعني شيئاً أمام مصالحه، وأنه لم يعد ذلك الغرب الذي يقول لشيء ما كن فيكون.

كالمستجير من الرمضاء...

إن الاحتماء بالعباءة الامريكية من خطر الإرهاب، واجواء التوتر الاقليمي، هو كالمستجير من الرمضاء بالنار، فداعش و سواها من الجماعات الأصولية التكفيرية، ليست إلا أداة فاشية إجرامية بيد الرأسمال المالي العالمي، لإنهاك كل القوى وفي مختلف الساحات بما فيها الساحة الكردية، ليذهب الجميع طالباً العون من سبب المشكله، أي صانع داعش الحقيقي، ومموله ومدربه.. وفي السياق نفسه، أليس من المنطقي التساؤل، لماذا هذا الغزل التركي للتجربة الكردية في العراق، دون أن تحل مشكلة عشرين مليون كردي لديها، واستطراداً فإن بناء الاستراتيجيات استناداً الى قوى بدأت شمسها بالأفول لن يقود صاحب هذه الاستراتيجيات إلا إلى الظلام، بغضّ النظر عن نواياه. 

*أمين حزب الإرادة الشعبية

آخر تعديل على السبت, 25 تموز/يوليو 2015 09:36